وأنا أنظر إلى الولد الذي رموه من علو ثلاثة أمتار أو أكثر في الملعب وجسده خامد، تخيلت لحظة، لا سمح الله، لو كان ابني، إن نجوت من الموت حزنا على الموت العبثي فسأذهب إلى الحرب على هذا العالم البائس، لقد خلق الله الأبوة لحماية الأبناء، تخيلوا مشاعر أمه تراه مرميا في ذلك الوضع ؟ إني أعاني من صعوبة في العثور على علامات الانتماء إلى وطن يموت فيه الإنسان من أجل فريق كرة،
ابني اهتم بالكرة مرة واحدة في حياته في سن خمس سنوات، وجدته يتقد حماسا ويطلق شعارات في رواق البيت "نحن الإفريقي" وقد أضحكنا موقفه لا غير، نسي ذلك في اليوم الموالي، لقد نشأ في بيت مليئ بالكتب والحواسيب وآلات الموسيقى، كنا نذهب عائلة كاملة إلى معرض الكتاب لنترك ثروة مقابل أحلامه هو وأخته، ولم نشاهد منذ زواجي مقابلة كرة في البيت، أصلا نحن لا نشاهد التلفاز إلا من أجل فيلم جيد ننزله من الشبكة لنناقشه معا، عندما كبرا وبدآ يجدان الرغبة والصبر على مكتبة الأسرة، اكتشفا وجود تسجيلات كونية خالدة في "أصحنة فينيل" نادرة لفرق بنك فلويد وكبارات الموسيقى العالمية مع تشكيلة نادرة لعبد الوهاب وفيروز وأم كلثوم وغيرها مع قارئ صحون tourne disques من الزمن الجميل، هل يتعارض ذلك مع الكرة؟ لا طبعا،
لما كان عمري 14 عاما (1979) كان يخيل إلي أن مصيري قد تقرر مع الكرة، دعاني استاذ الرياضة في المعهد الفني بالكاف إلى التدرب مع فريق أولمبيك الكاف، قالوا إني لاعب جيد في موقع ستوبر لإيقاف المهاجمين وحراسة مربع الانطلاق نحو الهجوم وعندي قدرة استثنائية على التوزيع القوي الطويل (كرعين طفل متعد على المشي بين الجبال والأودية) وكنت أحمل في التدريات رقم 5، لكن إغواء التدخين المبكر وهرمونات المراهقة السيئة كانت أقوى، زمن الأغاني الملتزمة في دار الثقافة غرة جوان وسينما النوادي كانت أقوى مع الرغبة في الهملة وصعوبة الالتزام بمواقيت التدريب وخصوصا الإعداد البدني،
عموما، لست موضوعا جيدا لتقييم العلاقة بالكرة، فقد ذهبت إلى الاحتجاج لظروف طويلة ومضنية، وثمة كفوف أكلتها ظلما جعلت مني ما أنا عليه، المرة الوحيدة في حياتي التي ذهبت ليها لمشاهدة مقابلة كرة كانت صيف 1983 بين تونس ومصر وكنت ما أزال تلميذا في المعهد الفني بالكاف وأشتغل صيفا في حضائر البناء عندما كان المنار الثاني مجرد حضيرة طينية ضخمة صدمتنا بفوارق العيش الفاحش والفلوس التي تصب من السبالة فيما أهلي يقتلون أنفسهم لأجل قنطار قمح في دير الكاف، زحفنا، نحن المرماجية، القادمون من غرب البلاد بالمئات إلى ملعب المنزه القريب ودخلنا بالسيف حيث أطردونا بالعصي نحو زوايا المدرجات، بقي لي من تلك الذكريات الذهول البدائي أمام كبر المكان ودوي الأصوات البشرية المخيف، أنا لا أنتمي إلى هذا "الكائن" العملاق الذي ليس له عقل،
في مهنة الصحافة، عاشرت صحفيين كان أغلبهم مجرد مستكتبين عند مسيري النوادي ولم تكن قواعد المهنة تهمهم لذلك لم نكن نحترمهم، أصلا من الصعب أن تجد صحفيا في الرياضة يعيش من مهنته وقتها، فكان فيهم أعوان شرطة وموظفو تعليم وبنوك وحتى عاطلون يستعطفون الناس، كان قطاعا صحفيا خارج السيطرة يمارس التحريض بأكثر الغرائز بداية ووحشية للقطيع،
رأيت خراب البيوت بسبب الرهان الرياضي والجري وراء المقابلات أيا كان الثمن، شيئ يشبه إدمان المخدرات القوية ساهم في كرهي للكرة، ثمة فارق بين أن تعلب الكرة وتحب الرياضة وبين أن تتعصب لها وتشتم أمهات الآخرين فقط لأنهم ينتمون إلى الفريق المنافس وتحطم سياراتهم وواجهات محلاتهم باسم الكرة، شيء لا يركب على بعضه، في بيتي لا نفطن لوجود حدث اسمه الكرة إلا من دوي الفوضى العنيفة خارج البيت: "ياخي ثمة ماطش كورة اليوم؟"، لا؟ يمكن، هل ادخلت السيارة إلى مأوى الإقامة؟
يخيم الهدوء والسلام على البيت، جهازا التلفاز مغلقان في البيت أو أحدهما مفتوح على وثائقي حول حرب الفيتنام أو حتى طيور البطريق إلى أن تفتح الانترنيت وترى ذلك الولد يرمى من علو ثلاثة أمتار أو أكثر، في أية حرب وقع هذا؟ أية غربة تحسها بالانتماء إلى وطن قطيع الكرة؟