ثمة "حاجة" مسلية هذه الأيام اسمها "المؤتمر الوطني للسياسات العمومية في قطاع الإعلام"، ويفترض أنها لا تتعلق بما ينتظره الناس من مقابل ما يدفعونه في كل فاتورة كهرباء من مساهمة في تمويل الإعلام العمومي وسأعود إليها، بل في حق المجموعة الوطنية في مرفق عمومي ذي جودة لمساعدتهم في إعطاء معنى لما يحدث لهم بعيدا عن سلطة المال والسياسة، تمسكوا بعبارة "ذي جودة"، وبقطع النظر عن أية "خبرة مفترضة" لنا أو أمل في تقديم رأي، فإننا لا نعلم شيئا عن طريقة اختيار مواضيع هذه "الحاجة" ولا بالمحاضرين أو علاقتهم بالموضوع، وقد سمع بها أغلب الفاعلين في الإعلام العمومي عبر وسائل الإعلام، وعموما، نحن ملزمون بواجب التحفظ الإداري، لكن وضع الاستثناء يتيح لنا أن نشارك بالرأي ولو لم ير أحد موجبا وجيها لدعوتنا.
لا حاجة اليوم لإعادة اختراع العجلة: الإعلام العمومي يتمول من دافعي الضرائب من أجل مصلحة دافعي الضرائب بعيدا عن ضغوطات لوبيات المال والسياسة، وعندما يغضب منك صانع القرار لا يطردك كما في الإعلام الخاص، بل تحتكم وإياه إلى المواصفات الصناعية لمهنة الصحافة، لكن هذا لا يمنع الإعلام العمومي من تحصيل الإشهار ومن بيع إنتاجه أو الشراكة فيه، المعضلة هي أن يحقق الجودة التي تتيح له جلب الجمهور وتحصيل الإشهار،
وكان يمكن أن يكون محور هذه "الحاجة" المؤتمر: كيف نحقق الجودة الصناعية التي تجلب الجمهور الذي يجلب الإشهار، حيث لا مبرر لدعوة ممثلي الإعلام الخاص لكي يعلمونا كيف ننافسهم، ومع شيء من الجدية، كان يمكن أن يقلب منظمو المؤتمر السؤال: "كيف نتخلص من إنتاج محتويات بذيئة وسخيفة بالمال العمومي لكي ننتج محتوى محترم يجلب لنا الجمهور ومعه المستشهرون بشروطنا"، وهو سؤال سيقودنا طبعا إلى حوكمة الإعلام العمومي وعن معنى أن تسلم لأحدهم مؤسسة إعلامية عمومية لها 20% من الرأي العام لتنحدر إلى 8% بعد أقل من عام في مخالفة صريحة لمنطق عقد الأهداف، ثم يكافأ بالمحافظة على امتيازات التعيين أو يدعى إلى مهام أخرى، أفضل ماليا،
لنعد إلى الموضوع الأصلي: لماذا يفشل الإعلام العمومي؟ لقد ألقيت نظرة على مشروع تحيين القانون الأساسي للإذاعات العمومية، فتأكد لي من عدد رتب الكواهي (جمع كاهية مدير، عبارة تعود إلى الدولة العثمانية) أننا نؤكد صورة الجيش المكسيكي حيث الجنرالات أكثر من الجنود، مؤسسة إدارية بيروقراطية عريقة تدافع عن نفسها، إنما يخجل فيها أهم شخص في صناعة المحتوى الإعلامي من وضعه، وهو رئيس التحرير، الذي يفترض أن ينظّر إداريا وماليا مع رتبة مدير عام،
صحيح أن القانون الأساسي للإذاعة أفضل اجتماعيا من ملاحق الاتفاقيات المشتركة للصحافة، لكنه لا يولي أية أهمية لصناعة المحتوى ولهرمية الارتقاء المهني في الصحافة، ليس هناك أصلا أي شكل من أشكال التقييم الصناعي الخاص بمهنة الصحافة والمهن المجاورة لها من إنتاج وتنشيط وتأطير وغيرها، غير ذلك ثمة تقارير من منظمات مختصة دولية ومحلية اقترحت ترك الإعلام العمومي يموت تدريجيا، لأنه غير قابل للإصلاح في وضعه القانوني والصناعي الحالي،
يا للأسى، هذا غير صحيح، فهو يحتكم على ثروة بشرية صناعية غير قابلة للشراء، كل ما تحتاجه هو مشروع وليس تعيينات بلا أهداف ملزمة، إلا إذا كانت الدولة تريد دفعه إلى الموت و"حاشمة"، لست دخيلا ولا محتالا حين أقول إنه بإمكاني أن أعيد ثلاثة أو أربع أروقة إنتاج في التلفزة الوطنية إلى صدارة الاهتمامات خلال ثلاثة أشهر، تكفي فقط المراهنة الصحيحة على الأنماط الصحفية، هذا ليس سرا ولا اختراعا، فقط الإرادة والمعرفة،
باهي، فيما يخص المساهمة العمومية التي ندفعها في فاتورة الكهرباء لتمويل الإعلام: الستاغ لا تعطي فلوسنا إلى الإعلام العمومي كما يفترض لأن الدولة لا تدفع ثمن فواتير الكهرباء لمؤسساتها، ولذلك فإن الدولة تتغصور كل عام ثم كل ثلاثة أشهر لكي تدبر فلوس الأجور والحد الأدنى من إنفاق التسيير،
عن صناع الإعلام والصحفيين،
أنظر إلى الإعلام، عموميا أو خاصا وأتذكر الراحل صلاح الدين العامري، رحمه الله، ومما أذكر عنه أنه قال مرة لعبد الوهاب عبد الله، سيد الإعلام الوطني في نظام بن علي في إحدى المناسبات في منتصف التسعينات: "أعطيك جرائدي كلها في كل الأعياد الوطنية تضع فيها ما تشاء، بشرط أن تتركني أمارس مهنة الصحافة بقية أيام العام"، الآن، ليس لدينا إعلام لا أيام الأعياد الوطنية ولا غيرها، بل كرانكة من عبث الفساد والفوضى والجهل والتدخل في ما لا يعرفونه، في غياب أي عمل صحفي ناضج موضوعي،
حدثني أصدقاء كثيرون أن عبد الوهاب عبد الله اشتكى في اجتماع مع أصحاب الصحف من كثرة المقالات التي تتحدث بتفصيل شنيع عن الجرائم بما يشوه سمعة البلاد حسب رأيه، صلاح العامري فقط تجرأ على التكلم وقال: "أعطني ربع حرية لوموند وأنا أعطيك أفضل منها في تونس"، ها أن عندنا حرية لوموند وفوضى الصومال، ماذا فعلنا بحرية الإعلام في غياب الحرفية. نحن لا نطلب حرية لوموند أو غيرها، فقد حدا أدنى من مهنية إعلام القطاع العام لكي نغلب الكفة، ويصبح الإعلام العمومي سيد الساحة بما فيه من كفاءات، فقط مديرين حقيقيين أصحاب مشاريع ورؤية وقدرة على إدارة التحرير،
وهذا النص ليس في مديح الراحل صلاح الدين العامري، بل في مديح صناعة الصحافة، وأنا أعتقد أنه كان رحمه الله، صانع صحفيين وعارفا بأسرار المهنة وبالأعمال الصحفية النبيلة الكبرى، وكان عنده نوافذ خفية للعناية بالمواهب الصحفية والاستثمار فيها والصبر عليها، وأذكر أني كنت أجده طيلة أشهر قبل مرضه، مهما بكرت، في قاعة التحرير الكبرى في الطابق الأول بمبنى دار أنوار أعوام كان في نهج الشام، يقرأ برقية الأحداث المتوقعة (dépêche des prévisions TAP) مع برقيات أخرى من AFP و REUTRS والصحف التونسية والأجنبية ويكتب على ورق البيفتاك ملاحظات للاجتماع،
كنت أعزب في الرابعة والعشرين، أسكن قريبا في نهج الإدريسي، مغرم بالمهنة وليس لي ما أفعله غيرها، أذكر أنه طلب مني مرة أن أجلب قهوة مثله وأن أجلس معه، قال لي إنه يعاني من أرق شديد وألم في صدره لكنه يحلم بإنشاء مؤسسة إعلامية أكبر من الأهرام المصرية ولوموند التونسية وليس لدي شك اليوم بعد أكثر من ثلاثين عاما أنه كان قادرا على ذلك، وكل من حظوا بلحظات حميمية معه يعرفون أن سلطته تخفي إنسانا خجولا رائعا، إنما تعذب طويلا بأحداث ظالمة منها دخوله السجن ظلما.
الخلاف بيننا بدأ حين اقترحت عليه تمويل دراستي في إعلام الشبكات والانترنيت في فرنسا عام 2001 لإعداد المؤسسة للمستقبل الذي كان يحلم به، فرفض، ذهبت على مسؤوليتي وأضعت أول دراسة عربية في المرحلة الثالثة في هذا المجال كان شرطها أن يكون الصحفي عالما بلغات البرمجة والتصميم وكنت الوحيد وقتها، وعندما عدت دون أتمام الدراسة معذبا بالديون الأولى للقروض الغبية للسكن والإنجاب، كنت أنا قد فاضت بي روحي وجهودي وفقدت حماسي للمؤسسة وكان هو يقضي أيامه الأخيرة في هذا العالم، لكني أذكر له أن أخر قراراته هو فرض امتحان في اللغة والأسلوب لكل الصحفيين.
أذكر مرة أنه دعاني قبل ذلك في مكتبه الفاخر في المقر الجديد، بعد حديث واسع كالبحر كعادته، قال: "الكاتبة أعطتني قائمة في الكتب التي قرأتها من مكتبة المؤسسة، هذه الكتب هدية لك"، كانت خمسة كتب حديثة مما يشتريه دائما ويستحيل علينا شراؤه لغلائه وعدم توفره منها كتاب نهاية التاريخ لفرنسيس فوكوياما محذرا: "لا تصدقه، التاريخ لا ينتهي" وكتاب l'état voyou للكاتب ويليام بلوم،
قبل ذلك، أذكر عنه في 1992، غضب عليه نظام بن علي لأسباب تستحق أن تكون كتابا، فقرر أن يجوع المؤسسة حتى إنهاكها وإنزالها على ركبتيها وبدأ بحجب أموال الإشهار العمومي القديمة المتخلفة 1.8 مليون دينار (مثل 10 مليون دينار اليوم) ومنع أي إشهار جديد، جمعنا الراحل في واحدة من حركاته العميقة ليطلق أيدي من يشاء منا في جلب الإشهار، أعطى les démarcheurs عمولات تصل إلى 50% من محتوى العقد بعد خصم الضرائب، وتحولت طموحات الكثير من الصحفيين إلى جلب عقود الإشهار، مقابل أي وعد ومنه مقالات إشهارية في شكل مقالات صحفية،
تراكمت العقود حتى فاقت مداخيل الإشهار العمومي، مع فارق أنها كانت فلوس حبا ورقا حقيقيا على عكس الإشهار العمومي الذي تنشره ثم تنتظر وتتوسل لكي تخلص فيه على مراحل وأنت تثبت كل مرة درجة أعلى من الولاء، خلق ذلك جيلا من الصحفيين الفاسدين، لكنه حرص على عدم إفساد كل الصحفيين، خصوصا البسطاء من أمثالي ممن لم تكن لهم القدرة على حلب العلاقات المهنية والسياسية ونيل زبدتها، كان يشرب أرواحنا بعبارته المكررة: "باسبورك حاضر؟" على أمل مهمة عمل تاريخية تصنع المجد، ما علينا، كنا صغار وباهين وتلك حد نيتنا، حتى أجورنا كنا نحصل عليها بصعوبة، غفر الله له،
لقد رافقته في أغلب القضايا التي رفعت ضد صحفه في المحاكم بصفته الناشر وكانت لي معه لحظات قرب في المحاكم وفي المهنة أحتفظ بسرها، إنما قد رافقته مرة في آخر أزمنة غضب بن علي عليه نهاية التسعينات في أنهج المدينة العتيقة ونحن نتجه إلى جامع الزيتونة، كان الحال السابع والعشرين من رمضان مع تدفق كل صناع القرار ومن له علاقة في أثر الرئيس الملك إلى درجة الاختناق، وكان هو يعاني مرضه القاتل الذي سوف يرحل به وكان معنا صديقان وضابط أمن في المصالح المختصة أعرفه جيدا قالي لي فجأة "ابعد، الرئيس حاجته بصاحبك"، فتحوا له الطريق ثم رفعوه بين أيديهم بسبب مرضه سريعا إلى الرئيس حيث علمنا فيما بعد أنه أصلح معه بعد ذلك كل الخلافات السابقة ومنها ترتيبات مسبقة لملكيات الصحف كان تثبيتها في بيت الله في مكة، أكتب هذا ليس طمعا فيه، بل لأنه، رغم مرضه كان صانع صحافة فريدا غير قابل للتجاوز، فقط عاجله المرض، ولا أرى بعده صناع صحفيين أو رؤساء تحرير بمعرفة وخبرة صلاح الدين العامري،
أكتب هذا ليس ليس مديحا للرجل وقد شبع موتا وأرجو أن تصله دعواتنا برحمة الله التي نرجوها كلنا، إنما ألما لفقدان صناع صحافة ورأي عام بحجم مهنية صلاح الدين العامري،