عرفت العزيز عبد اللطيف العلوي تحت برج المحنة في غرفة عدد 8 في سجن الكاف شهر أفريل 1986 وكان عمره ثمانية عشر عاما وشيئا، كان يشبهني في بداوتي وطباعي الصعبة وهو ما سيبدو عليه إلى اليوم، كان يحفظ مع ثلاثة من التلاميذ الكثيرين الذين جاءوا معه من معهدي بلطة وبوسالم أكثر مني أغاني الشيخ إمام الحزينة لأني ذكرت لهم ذات ليلة أني استمعت بحزن ليلة إيقافي في معهد تاجروين الكئيب إلى تلك الأغنية التي تحمل الشؤم لكآبتها "أهيم شوقا أعوذ شوقا"،
عبد اللطيف كان أكثرنا هشاشة وكنت أرى أنه لم يشف من صدمة السجن وأن روحه تحوم عاليا وبعيدا، كان شاعرا رقيقا خجولا يكتب أشعارا رائعة ويغني بطريقة جيدة، وأنا عندي ذاكرة انتقائية جهنمية طورتها منذ طفولتي الأولى التي عشتها بعيدا عن أمي وإخوتي للدفاع عن نفسي من الخراب الروحي المتواتر حتى رمونا في جحيم السجون حين حكموا علينا جميعا دون تمييز بالسجن لخمس سنوات من أجل مظاهرات تلاميذ، خصوصا حين شردونا بعد أقل من عام، هو إلى سجن برج الرومي وأنا إلى السجن المدني بالقصرين وكان أشبه بالعقاب العسكري إنما كان على كل واحد منا أن يدافع على نفسه بما توفر له،
لم ألتقه إلا بعد أن نشرت أنا كتاب "أحباب الله" عام 2012 ونجح هو في إصلاح ما أمكن من حياته ليصبح أستاذ تعليم ثانوي، إنما كان واضحا أنه يعاني مخلفات الرعب والظلم، وتحدثنا وقتها عن صديق من تلاميذ السجن ذهبت إليه إلى مدينة طبرقة متوسلا لكي يسمح لي بنشر ما يخصه في كتابي عن عذابات جيلي، رويت له كيف عثرت على ذلك الصديق يشتري العصافير التي تربت في الأقفاص لكي يدربها على العودة إلى الحرية وأن تخاف من القطط والبشر، وأنه قال لي بصرامة: "أقاوم لأجل أن أنسى وأشفى من تلك الأيام المرة، لا تحاول، لا تذكرني"،
أنا أذكر ذلك كما لو حدث اليوم، مثل تفاصيل كثيرة حدثت في السجن كأنها اليوم: معارك من أجل البقاء على قيد الحياة، تبدو لي اليوم مثل تراث المحاربين القدامى، وعندنا أصبح نائبا في البرلمان قلت لنفسي بأسى: "في أي فخ رمى بنفسه ذلك الولد الخجول؟"، إنما أعتقد أبلى بلاء حسنا في ما اختاره لنفسه، قد أختلف معه فيما ذهب فيه، إنما أنا أعرف معدنه الجميل، لم ألتقه أبدا وهو في مجلس النواب، كلمته مرة واحدة بالهاتف من أجل قضية لم أجد لها حلا، وبلغني أنه بذل فيها أكثر مما يقدر عليه، وأعتقد أنه فعل ذلك وفاء لما قدم نفسه له، إنما، أيها الناس، نحن محاربون قدامى، رأينا الجحيم رؤي العين وبقينا أحياء، لقد كنا أصغر بكثير من السجن، كنت أقضي الليل كله يقظا دفاعا عن مؤخراتنا، يا أبناء ما دون مقام الكلب، أذكرها دفاعا عن الحقوق، كما أذكر أني بقيت طويلا في متحف سجن القلعة في القاهرة، وفكرت في أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام وفي أغنية "يا شمس يالي هالة، يا حبنا الحلال، يا مخضرة الحدايق، يا مسيبة الشعور لينا وللخلايق، بنشوفك بالطابور، بنشوفك بالدقايق،
وقتها تذكرتك، يا عبد اللطيف وتذكرت العشرات من الآخرين الذين ليس من حقي أن أذكرهم لأنهم يفضلون أن ينسوا تلك الأيام الشاقة غير الوطنية، كان من بينهم تلميذ طفل في السادسة عشر، جاء معكم مهشم الوجه والساقين ورفض مدير السجن قبوله ليلتها، فعلقه أعوان الحرس في بوابة السجن الخارجية وذهبوا، قبلته زوجة مدير السجن في بيتها مع بناتها الثلاث إلى الصبح وأنا حملته معها مثل جثة، وكان الصبح قريبا، عندما وقفت على زنازين سجن القلعة في مصر، حضرت الأغاني، جلست لأتذكر كيف كنا نرى الشمس بالصف، ساعة إلا ربع لا غير في الآرية، وتذكرت خصوصا ثلجية ديسمبر 1986 في سجن الكاف، هل تذكر كيف احتاج أعوان السجون إلى نصف ساعة لإبعاد الثلج من أمام باب غرفة 8 في سجن الكاف؟ لقد ذهب كل منا في طريق وبقيت الذكرى والقيم الانسانية والوفاء لها،
نحن قدامى المحاربين، نحن الذاكرة الحزينة، إنما محاربون في حرب مزيفة، حرب بلا أخلاق ولا منطق، إنما هي الحرب، تحياتي أيها الصديق،