في مثل هذا الوقت من سبتمبر 1971، رافقت أبي في ظلام الفجر تحت مطر لا يتوقف إلى سوق دشرة نبر على بعد خمسة عشر كلم لبيع ثلاثة براشن، اثنان منها سوداء وواحد أحمر جدع، بعناها كلها بعشرة لاف وخمس مائة، وزوز عشرينات للمكس وكان أبي يتحسر لأن البراشن تسوى خمسة عشر ألف، إلا أنه كان يكرر لي: لولا قرايتك لعدت بها، أنا عندي ذاكرة انتقائية مزاجية للتفاصيل الصغيرة التي تعطي معنى للحياة طورتها عندما طال بي السجن وخصوصا العزل العقابي في سجن القصرين وكنت بحاجة أكيدة إلى ذاكرة لكي أثبت أن لي ذكريات قبل قسوة السجن الذي يمحو الذاكرة، قتلت نفسي بحثا عن التفاصيل دفاعا عن حقي في الحياة والذاكرة، الآن أذكر حتى ملابسنا، كان أبي يعتمر منشفة زرقاء وبيضاء ولم يكن وجهه حليقا كعادته، ولم تكن شلاغمه التاريخية مهذبة فكانت تبدو مثل شلاغم القط،
كان عمري ستة أعوام إلا أسبوعا وكان ذلك في زمن الفيضانات. اشترى لي صباطا أسود بالحياصة قياس 34 وسروال ترقال وآخر دجين كأنهما من المعدن، كان علي أن أبكي وهو يضربني لأنزع سروالي لأني لم أكن مطهرا وقتها وقيسهما في السوق أمام الناس "هاني نغطي فيك". سيحتاج خالي وابن عم أبي بعد ذلك إلى كل قواهما لإخضاعي لمشيئة خالي مجيد الطهار بعد عامين لأن أبي هرب من الموقف، خالي رحمه الله قال لي ونحن نستذكر الحادثة: "كان يجب أن نجلب لك الحرس الوطني وأن نطلق عليك النار لنطهرك"،
بعد ذلك أودعني أبي عند أجمل خالة في هذا العالم البائس "دادا الزهرة" التي أنفقت عامين من عمرها وهي بالحولي العكري وغطاء راسها التاريخي في ملاحقة شقاوة طفولتي الصعبة بين الدواوير فقط لكي تجمع شتات روحي وتعود بي إلى حضنها الدافئ وإلى المدرسة، دادا الزهرة التي كنت أجمع معها الزيتون في جبال ملاق وورغة فتطحنها بالرحى وتطفح الزيت في مياه وادي ملاق العظيم بحراسة كلبها الوفي سخاب، يا رب ماذا أفعل لتكريم روحها بعد أن رحلت عن هذا العالم؟ لقد قدمت إليها زوجتي وابني فخورا وسهرت معنا لكي تبارك لي ونحن نستذكر كيف يمكن لذلك الصبي المتوحش أن يصبح أبا، قبل أن ترحل عن هذه الدنيا،
المشكل في السوق أن لا أبي ولا أي أحد من العائلة يعرف "القلسون" أو السليب لذلك لم نر مبررا لشرائه، لذلك رأت معلمتي في السنة الأولى العضو الصغير السخيف لطفل ريفي مهمل من خلال فتحة سروال الدجين ذات الأقفال المعدنية الصعبة غير المغلقة، "وأنا يا حبة عيني، عمري ست سنوات" مودع عند خالة أبي، لأني تكن لي أم معي تتفقد تلك الفتحة صباحا، أنا أصلا لم أكن أهتم بأطلاق العنان لغريزة التبول على نفسي عندما أعجز عن فتحها، تلك المعلمة العزباء ذات النظارتين الضخمتين كانت تدعوني إلى بيتها بين حصتي الدرس، ومرة ضبطتني وقد لوثت مرحاض بيتها بسبب الفشل التاريخي في فتح الأزرار المعدنية، كانت تقطع السلاطة عندما أمسكت السكين مهددة وقالت لي: "سأقطعه لك الآن حالا"، أعطيني خواطرك لعلاج رعب الخوف الغريزي على ذلك الشيء الصغير إنما المتعلق بالرجولة المطل من فتحة السروال التي ليست لي أم تتفقد ما إذا كانت مغلقة صباحا؟ ظلت المعلمة تجلب لي دمى وفيلا زرقاء وألعابا قديمة فقط لكي أتوقف عن النشيج والغصة، أعتقد أني لم أشف من تلك الحادثة، حتى إن لم تكن للإنسان فتحة في سرواله الرياضي فسوف أتفقدها من باب الاحتياط، ثمة دائما سكين تمسكها امرأة ما، شكون يعرف؟
في السوق، اشترى لي أبي أيضا قماشا قطنيا أزرق نيلة ستخيط منه أمي بيديها منديلا مدرسيا بجيب واحد وقميصين وهي تقلد خياطة الماكينة، كانت أمي وستظل خياطة ممتازة تنفق علينا من الخياطة إلى أن تفقد قدرتها على إدخال الخيط في إبرة الماكينة، أطال الله عمرها، في سجن القصرين كنت أحلم مفتوح العينين في مساءات العزل بأني مثل طير، أعود إلى بيتها فأجدها تصلي المغرب بين ملابس العرائس، تعدها بإتقان وهي تبكي في سرها لتعاسة قلبها المثقوب بالغيابات،
الأمهات لا يعرفن أن أبناءهن يتعلقن بالحياة لأجلهن أحيانا كثيرة من أجل الذكرى، لقد تحولنا إلى صديقين عجوزين، إني مدين بأغلب ما أكتبه لها، إني لم أكتب بعد شيئا يستحق وقوفها في رواق الزيارة في سجن القصرين بيني وبينها سياجان من الحديد وعون أمن يحصي كلماتها وكلماتي لكي لا تخرج عن السياق، لقد رأيت أصابعها المجرحة بأباري الخياطة تتعلق بقضبان السجن، هل عندك شفاء لهذا؟ لقد خاطت لي أيضا ببراعة محفظة مدرسية من شكارة أمونيتر ذات عناجين في أعلاها وحزاما لأحملها على كتفي رافقتني عامين في المدرسة،
الأجمل أنها دست سرا قطعتي 20 مليما مما جمعته من بيع ثمار الكبار في جيب المنديل الأزرق الذي لبسته فجر يوم عيد ميلادي ولم أفطن إلى رنين القطعتين إلا عندما فكرت في الهرب إلى الخلاء من المدرسة في اليوم الأول، كانتا تشبهان دينارين اليوم أو أكثر، اشتريت بهما كسكروت هريسة ودبوزة بوقا بيضاء ولا أعرف شيئا عن الباقي إنما كان ذلك مبررا للبقاء وتأجيل الهرب من المدرسة،
في الثاني عشر من سبتمبر الحزين حملني أبي تحت المطر على كتفيه متمسكا بغطاء رأسه التاريخي الذي أصبح كشكولا أخضر من ناظور دير الكاف بين بيوت أخوته وعماته إلى مدرسة سد وادي ملاق العدائية، أتذكرها وكأنها اليوم، يقولها لحارس المدرسة محمد القهواجي رحمه الله: "اقتله وحاسبني بجلده"، أما أنا فقال لي وهو يسلمني إلى العالم العدائي: "لا تكن بغلا مثل أبيك"، بعد نصف قرن: آه يا أبي، من هو البغل؟ وما هو ثمن أن لا أكون بغلا؟ محمد القهواجي كان يحبني أني آكل كل ما يطبخه لنا في الكنتينة، آكل أيضا السفنارية واللفت والقرع والراقو لأني كنت جائعا مثل ذئب،
في المدرسة العدائية أكلت لحاء الجدران، بكيت وحدي حتى مللت وكان يمكن أن أجن ويطردوني، السبب أني نلت جائزة مدرسية في العام الأول، الآن أعرف أن ذلك من التراث الإنساني العظيم لنباهة البدو وسرعة التعلم، في العام الثاني هددني المعلم ومدير المدرسة بحقنة أبقار في أذني لأني لهوت مع طفلة شديدة الجمال مثل دمية من أبناء الذوات في القرية التي كانوا يسموننا فيها "الأهالي les indigènes" كما سمانا الفرنسيون وهم يبنون السد، أي، تبولت على نفسي وبكيت، وخبأت روحي ذلك القهر إلى أن بلغت المراهقة،
واشتعلت حياتي نارا فوضوية ضد الدولة في المظاهرات التي تواجه كل أشكال السلطة في المعهد الفني في الكاف ثم في المعهد الثانوي وفي تاجروين منفيا، لم يكن ينقصني سوى أبي يحملني على كتفيه إلى تاجروين، لأن الصورة ذاتها: التشرد والغربة، اليوم لم تعد هناك غربة، إنما ثمة ملائكة صغار بملامح مذهولة في الأرياف، إليهم أكتب وأعطي روحي، ذات مرة كان الثلج ينزل منذ ثلاثة أيام في دير الكاف ووجدتهم على حافة الطريق، اقتحموا السيارة من كل أبوابها بصخب، أحصيتهم عندما نزلوا كانوا أربعة عشر روحا رائعة تركوا موجات إيجابية لأسابيع في السيارة، في مسافات الليل والوحدة، كان يكفي أن أنظر إلى المرآة الداخلية لكي أرى وجه أي واحد منهم، يشبه وجهي وأنا صغير وأبكي، إليهم أكتب،