"عندما يموت شيخ، فإن ذلك يشبه احتراق مكتبة" (أو موت شجرة باوباب في القرية حيث يجتمع الكبار وتعقد الصفقات والعقود)، وهي مقولة محمية باليونسكو للمفكر، أب جمهورية مالي أحمد هامبيتي با، (1901-1991) عن الخسارة التي لا تعوض لما تفقد مجموعة بشرية أحد شيوخها، وأنا أذكرها لسببين: ثمة طفلة كتبت تسألني عما إذا كنت أريد المزيد من المال من أجل ما أكتبه، وخصوصا ترسيمي رغم تقدمي في السن في مؤسسة عمومية، والثاني وهو الأهم، لأنه الأكثر تجسيدا لأهمية الخبرة في مهنة الصحافة هذه الأيام، لأن الصحفي ليس فقط مؤرخ اللحظة كما وصفه ألبير كامي، بل خصوصا ذاكرة الناس التي تحتفظ بتفاصيل المعاناة حتى الحلول التي وجدوها في الأزمات الحادة، ذلك أن الأرنب أسرع في الطريق، لكن السلحفاة هي التي تحفظ الطريق، وهذا ينطبق على الصحافة بشكل خاص، حيث أصبحنا اليوم محكومين بمزاج الذري والأميين، ومن يعجز عن ملأ صفحة واحدة بأية لغة شاء لأنه لم يعرف غرام قراءة أي شيء في حياته فما بالك أن يكتب كتبا أو يحفظ تاريخ ما حدث لأهله، وعدنا حقا إلى حالة الأمية التي لا تعني العجز عن القراءة بقدر ما تعني العجز عن إعطاء معنى لما يحدث،
في ديسمبر 2001، وأنا أدرس صحافة الانترنيت في جامعة CFJ في باريس، ذهبت لشراء حاسوب مستعمل لصديقي وزميلي منوبي العكروت في حي فيل جويف من زميل في قناة تي أف 1، اكتشفت أنه أصدر 16 كتابا على مدى 28 عاما في مجال اختصاصه، من صفقة بربع ساعة، غادرته بعد أربع ساعات قدم لي فيها مكتبته، وخصوصا تاريخه المهني، رأس ماله الرمزي الذي لن يحترق بموته في 2012، الغريب أن العالم أصغر مما نتصور في الصحافة، فقد التقينا صدفة في قرية بنت جبيل في آخر متر مربع من جنوب لبنان في حرب تموز 2006 حيث كان يستعد مع فريقه للرحيل عبر ميناء الناقورة تحت حماية قوات فرنسية خاصة فيما استسلمت أنا، بسبب وضع الصحفي التونسي إلى قضاء الليل في "بيارات" قرية تبنين شمالا هربا من القصف والقنابل العنقودية غير المنفجرة، ثم التقينا صدفة لا تصدق أيضا في القاهرة في 2009، وكان حدثني عن رغبته في زيارة تونس بعد الثورة، لكن العمر لم يسعفه،
أنا الآن في السادسة والخمسين من العمر، وهي مرحلة يزداد فيها الواحد إحساسا بضرورة المشي بالشوية بسبب ثقل حمل الذكريات، محاذرا أن لا يقع في الأحابيل المخادعة لذكريات الجراح التي لم تشف أبدا، أنا الذكريات الفاحشة لـ "كونتا كونتي" الشارني الذي واجه وحده في سن السابعة زريقة الأبقار التي كان يهددني بها مدير المدرسة نيابة عن سكان المدن بصفتي indigène معلنا أنه سوف يحقنها في أذني لأني عبثت مع طفلة لا أصدق أنها بشرية لجمالها إلا إذا قرصتها،
"من أنا لأقول لكم ما أقول لكم ؟ وأنا لم أكُنْ حجراً صَقَلَتْهُ المياهُ فأصبح وجهاً ولا قَصَباً ثقَبتْهُ الرياحُ فأصبح نايًا... أَنا لاعب النَرْدِ"، يقول محمود درويش نيابة عنا،
أنا 33 عاما من المهنة أغلبها المطلق في الشارع وحتى بعد الزواج، ظلت زوجتي تضع بكره حقيبة الظهر في أثاث غرفة الاستقبال جاهزة لأية لحظة، فيها بشكير وشلاكة وفرشاة أسنان مشط مربع ينقصها فقط: دفاتر الكتابة والحاسوب والمصورة زمن أفلام 400 أيزو، أكثر من 17 ألف مقال منشور في رحى الصحافة اليومية وكل مقال كان درسا في تفادي الأخطاء، أعرف تونس دشرة دشرة وكتبت من أغلب قراها وأعرف أساطيرها وقصصها،
منذ أكثر من عامين، التقيت في أحد أحياء ضاحية المروج شيخا ناداني باسمي ولم أعرفه، قال لي: "عرفتك في شتاء 1991 عندما رافقتنا لأسبوعين لكتابة ريبورتاجات عن التهريب معنا نحن أعوان الديوانة في الصحراء، أعطيك أمارة: ليلة شوينا في الصحراء برشني في نصف برميل تحت الرمل؟ قضينا بقية المساء نستحضر الذكريات الإنسانية الجميلة ونستضر مصائر أولئك الناس، يا للجهد الذي يحتاجه الصحفي لترتيب ذاكرته، فقد كان يبدو لي أن ذلك حدث في 1996،
في 2013، اعترضني زميل قديم عند مقهى لونيفير بشارع بورقيبة، لم أعرفه في البداية لولا أنه اتجه نحوي، كان يعاني من شلل نصفي وكان يعاني من صعوبة في الكلام بسبب جلطة متقدمة، قال لي بصعوبة: "هل تذكر عندما حذرتني من إقامة علاقة عاطفية مع مهنة الصحافة؟"، كان واحدا من عشرات ضحايا هذه المهنة حين تحبها، الذين لا يكتبون لأنهم لا يقرأون أصلا، لا يعرفون مثل هذه المحن، حين أرى زميلي العزيز الشاعر الطيب شلبي، أفكر مليا، عن المعنى الحقيقي للنجاح في مهنة الصحافة، وبعد ذلك، تجد ذري في مرحلة ما قبل شيخ جمهورية مالي، يلعب عليك،
ومن المؤلم أن يعيرك أحد بتقدمك في السن في الصحافة دون أن يبلغ حتى مرحلة الأرنب الذي، على الأقل، يجري من أجل البقاء على قيد الحياة، إنما هو يجري دون معنى، أحيانا لمطاردة ذيله، لا يقرأ ولا يكتب ولا فكرة له عن الطريق أو عن المعنى،
لست شيخا بمعنى رقم العمر، بل بإحساسي العميق أن جيلا من الجهلة يأخذون مقاليد الحياة منا ساخرين من الخبرة والمعرفة والمكتبة ومن إعطاء المعنى لما حدث ومن المعرفة بالطريق، عموما، لسنا بحاجة إلى البقاء بقدر ما نحن بحاجة إلى السلام، لتذهب الأرانب إلى الجحيم،