عندي فكرة أولية سطحية على محتوى كتاب حمة الهمامي "الشعبوية في تونس: ثالوث الاستبداد والتفقير والتبعية"، أنا أتحمس كثيرا لكل كتاب يكتبه سياسي أو شاهد على السياسة لما يمكن أن يقدمه من معلومات غير معروفة في عالم مبهم بتاريخ حكومي. أعرف أن الكتاب لن يخرج عن المحتوى والأسلوب التقليدين المملين لثقافة "اليساري المحافظ" المجروح في تونس منذ منتصف السبعينات وهذا لا يكفي لكتابة مقال عن الكتاب في انتظار أن أحصل عليه،
لكني أعرف أن الله أو الطبيعة، لم تخلق حمة الهمامي للكتابة، عمليا: إذا كانت عندك قضية عادلة ولا تحسن كتابتها، فالأفضل أن تعتمد كتّابا يساعدونك في ذلك احتراما لعدالة القضية، وبقطع النظر عن عدالة ما يؤمن به حمة الهمامي، فإن ما شارك فيه أو تعرض له منذ منتصف السبعينات في تونس وحده يمثل هدفا نبيلا للكتابة بشكل عاجل من أجل الذاكرة الجماعية والتاريخ المشترك لأن فيه جزءا مهما لم يكتب من تاريخ الوطن فما بالك بأية سردية مراجعة صادقة للشيوعيين التونسيين مما حدث ويحدث منذ ظهور حمة في الساحة السياسية إلى هذه الأيام في تونس والعالم،
كنت أقول لنفسي أن الفارق الوحيد هي نوعية الأسئلة التي يمكن أن تخرج بها من مثل تلك اللقاءات، لذلك، كان أهم ما سعيت لأجله بعد الثورة هي كتابة قصة حمة الهمامي، وكنت أظن أنه آن الأوان لكي "يضع أحماله" ويروي لنا ما حدث. من حيث المبدأ المهني، كان في مقدوري أن أستخرج أفضل ما في قصة أربعين عاما من النضال المضطرب بالاعتماد فقط على طرح الأسئلة الحقيقية والمناسبة، وكان يكفي أن يوافق على المبدأ، لكي أكتب كتابا أفتخر به من 300 إلى 400 صفحة،
اعتمدت على أصدقاء خلص يثقون بنزاهتي وكفاءتي الصناعية للاقتراب من حمة الهمامي بعد الثورة، لم يكن حمة بعيدا عن متناول صحفي متمرس وقد جلست معه مرتين مع صديق مشترك دون أن نصل إلى اتفاق كان موافقا على الفكرة، لكنه لم يبد جاهزا لها وخلف لي انطباعا أن مثل هذا الكتاب يعني تقاعده من السياسة وفقدان الكثير من الأصدقاء أو الحلفاء ولم يكن مستعدا لذلك،
لكني كنت بحاجة إلى "جسر ثقة" إنساني عميق يمكنني من استدراجه لرواية قصة حياته حتى اللحظات الحميمة وعلاقته الشاقة بأجهزة الدولة والنظام وحلقات الإيقاف والتعذيب والحصار والتحالفات والمنظمات والجامعة والصراعات والخيانات، وهو عمل لا يقل تعقيدا وخشوعا عن جلسات استحضار الأرواح من حيث الاستدراج، إذ يتطلب برمجة وتخطيطا لجلسات متعددة للاستدراج والسيطرة على مسار السرد مع تسجيل صوتي جيد وإطارا مكانيا مناسبا لاستحضار التاريخ الذي أعرف أنه معقد وموجع.
كنت أعرف عن قرب الأستاذة راضية النصراوي زوجته، محامية ومناضلة إنسانية حقيقية يمكن التعويل عليها، رافقتها في عشرات القضايا أمام المحاكم لكني لم أسمعها تتحدث أبدا عن حمة أو سياسته حتى وهي تنوبه في قضيته الأخيرة ضد نظام بن علي وقد بدا لي أنها تعامله مثلما تعامل كل من يوكلونها للدفاع عنهم حتى من جماعة النهضة، وقد فكرت في كتابة قصة نضالها التي لا يشوب نبلها أية شبهة، كما دعوت ولا زلت أدعو إلى إنشاء مؤسسة حقوقية باسمها في حياتها لتخليد نضالها الحقوقي المضني الطويل لكنها لم تتحمس أبدا للفكرة في وقتها ولم أجد من يناصرني في التنفيذ كما هي الحال في القضايا التي ليس لها علاقة بالسلطة، إنما في لقاءاتنا العشوائية القليلة بعد الثورة،
لم أجرؤ أبدا على أن أطلب منها أن تتوسط لي مع حمة في كتابة قصة حياته من زاوية إنسانية تاريخية: حقيقة ما حدث، كيف بدأ، كيف استمر، الخلافات والخيانات والأصدقاء والسلطة وصراعات البقاء، وصولا إلى المراجعات السياسية والمواقف الحالية، وعندما تفاقم مرضها، عرفت أني فقدت حليفا إنسانيا عظيما، آخر مرة رأيتها فيها كانت قريبا من مكتبها في شارع الولايات المتحدة، كنت مع أستاذي وصديقي عبد الكريم الحيزاوي في المقهى عندما مرت بنا، توقفت، سلمت، قالت لي: "أعرف أني أعرفك، لكني نسيت أين"، لقد تلقت ذاكرتي ضربة حادة،
حمة الهمامي يكتب كتابا يضاف إلى المكتبة الوطنية، لكنه لم يفعل بعد ما نحتاجه نحن التونسيون وهي قصة السلطة وقصة اليسار في تونس من منظور شاب قادم من ريف ولاية سليانة، كيف حدث ودور المعارضة فيه، تداخل السلطة السياسية بالأمن وقصة التعسف والظلم والتعذيب ومؤامرات من هم في الدولة ضد مصلحة الدولة والشعب، ماهية الدولة في حد ذاتها منذ 1974، الأحداث الكبرى في تاريخ الجامعة والأحزاب وصولا إلى دوره وغيابه في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي ودعوته إلى مجلس تأسيسي ثم إلى ترشحه للرئاسة، قصة أتوقع أن تكون مغايرة لكل ما نعرفه من التاريخ الرسمي السخيف البذيء عن التاريخ الحديث للوطن،
خسارة، كتاب آخر، سيقرأه أنصار حمة من باب الحمية، قليلون من باب الفضول، لكن لا أحد تقريبا من غيرهم لأن حمة الهمامي لم يجد من يطرح عليه الأسئلة الحقيقية،