في زمن بورقيبة، كان أي واحد من العائلة أو المعارف ممن يتم إيقافهم في السجن بسبب المعارضة أو أي شكل من أشكال الاحتجاج على الحاكم يعاني من السخرية وحتى الشماتة، تتراوح المواقف بين "والله هو باهي ومثقف وعاقل، أما آش لزه؟ ياخي هو مسؤول على الناس؟" وأحيانا: "يستاهل، الشبعة آش تعمل، قرأ شوية ولى يزعبط، أبوه كان يبيع الخرشف في السوق ليوفر لهم الكسرة وهو يريد تغيير البلاد؟" مع مديح أكل الخبز "مسارقة" دون أي احتجاج أو إثارة انتباه.
في المعهد الفني بالكاف، كان عندنا قيم عام مساعد يفسر أي احتجاج من التلاميذ المقيمين في المبيت حتى على وجود الدود في العشاء بالشبعة والتخمة بعد الجوع، اللوبية والجلبانة والصبة متاع الحاكم، الشبعة تعلم التزعبيط والثورة، كنتم ميتين بالجوع والفقر لا وقت لكم للتفكير في الاحتجاج أو الكرامة، لذلك ليس لكم الحق في ذلك، الأصل أن يعود الحاكم إلى تجويعكم من أجل الطاعة،
لقد نجح نظام بورقيبة في كسر الاهتمام بالشأن العام والمصلحة العامة والتضامن بين الناس على قيم الحقوق والواجبات وخصوصا كسر مشاعر الكرامة الإنسانية تحت شعار "أنج سعد لقد هلك سعيد" حتى أصبحت المجاهرة بعدم مشاهدة توجيهات السيد الرئيس في التلفزة جريمة، اهتم بخاصة نفسك حتى إن قتلوا أباك أو أخاك أو ابنك، احمد الله على السلامة، وقل للكلب يا سيدي حتى تجتاز الوادي، وهو حلم أي طاغية في هذا العالم البائس لكي يهذي بلا منغصات، قال لي آخر أخوال أبي وأمي: "يا ولدي، الكف لا تعاند الاشفة" كف اليد لا تعاند مخرز الأسكافي التي تثقب أقسى جلود الأحذية،
أنا دخلت السجن صغيرا، سنة الباكالوريا، وبقيت في الروح أوجاع لا تشفى أبدا، لعل أخطرها أن أحد أقاربي كان يشتغل في الشرطة تطوع بنقلي من غرفة الإيقاف إلى السجن في سيارته الخاصة، متمتعا بصفعي كلما توقفت السيارة في الطريق "... وليت راجل وتعمل في المظاهرات؟" وبقيت لي صورة كشخته القذرة يتطاير منها اللعاب حماسا لحماية النظام وتكسير أية محاولة للخروج عليه، أدركته وزرته في بيته بعد أن غادرت السجن الذي قضيت فيه ثلاث سنوات، كان يحتضر بسبب سرطان قاتل حتى أني اشتممت رائحة عفن الروح البشرية من الباب، الشيء الوحيد الذي اتفقنا فيه بالنظرات هو أنه سوف يحمل معه إلى الله ملفي وملف عشرات وربما مئات من أمثالي، أنا لا أسامح،
أي، وبعد أربعين عاما، تجد كشخة قذرة تقول لك إن إضراب جوع جماعي في السجن بعد نصف عام دون تهمة هو علامة استدرار لعطف الأجانب ولا أحد يرد عليه، يا ألله؟ هل لهذه الكشخة القذرة من حل؟