يحظى كتاب السيد عبد العزيز قاسم عن علاقة الزعيم الحبيب بورقيبة بالإذاعة الوطنية بعنوان "بورقيبة المستمع الاكبر: مع الزعيم بين اذن الرضى واذن السخط" الصادر عن دار سيراس للنشر بالكثير من الاحتفاء والترويج المثير للدهشة عما إذا كانت هناك ماكينة خفية لجعله مادة متكررة في الأحداث، لكنها حظوة فاقدة للموضوعية النقدية المفترضة في علاقة مع زعيم انتهينا من أي خلاف سياسي معه ودخل في حساب التاريخ، لم يعد مقدسا كما كان في زمن سلطته المطلقة كما نحن ضد أي تشويه له بعد ذلك،
والسيد عبد العزيز قاسم كان مديرا للإذاعة الوطنية في زمن التأسيس والمديح والسلطة المطلقة أيضا ومديرا لمعهد الصحافة حيث وجد المغرمون منا بتاريخ المهنة أثره في المعهد أعوام كان في منفلوري، إنما انقضى الوقت الكافي لرؤية ما حدث بمسافة موضوعية، لو أن رئيس دولة اليوم تدخل في تسيير إذاعة عمومية لرموا في وجهه ورقة التعيين، فأي معنى لمديح تسلط رئيس دولة على وسيلة الإعلام العمومية لينتشي بشعارات التمجيد غير البشري وعبادة الشخص الفرد الحاكم المطلق الأبدي "الأكبر".
جيلي، خصوصا من الآلاف الذين اصطدموا بعنف الدولة وفساد موظفيها حين تحولت إلى حكم جهوي عضوض، يعانون من الوجه الكريه للسلطة المطلقة التي حولت مزاج الزعيم إلى وسيلة حكم عنيف بالتعذيب والسجون والمنافي وحتى القتل العمد والاغتيال المنظم من أجل تمجيد وعبادة من هو في السلطة،
أنا استفزني معنى عنوان "المستمع الأكبر"، أي معنى يمكن إعطاؤه لكبر حجم المستمع إذا كان حاكما مطلقا يعتبر الإذاعة ملكه الشخصي يتدخل في محتواها يوميا وهو يملك الجيش والشرطة والحرس والحماية المدنية وإصدار مراسيم الأعياد والمواسم والفرح والحزن، فأي شيء يضيفه إلى سلطاته الخرافية بعد مؤتمر المنستير الذي خلده رئيسا مدى الحياة بالسيطرة على الإذاعة ومراقبة محتواها؟ وماذا عن العلاقة المترابطة بين المستمع الأكبر المتحكم في المحتوى وحجم الموضوعية في معرفة الحقيقة التي يخفونها عليه لأنه المستمع الأكبر غير تزييف الواقع كما يريد،
بقيت طويلا عند عتبة العنوان بما هي دعوة إلى القراءة حيث تستفزني كل الألقاب الوهمية التي تلحق بالزعماء في العالم المتخلف على وزن المجاهد الأكبر والقائد الأكبر والزعيم الأوحد على شاكلة ما نراه في كوريا الشمالية وهي تذكرني بجملة الألقاب الخرافية المسلية التي فرضها "الإمبراطور" الماريشال جان بيدل بوكاسا الذي كان رقيبا في الجيش الفرنسي وأكل لحم تلاميذ شعبه في ثورتهم ضده، لكنه كان يفرض على مراسليه من منظمات بلده والمنظمات الدولية المتوددة إليه أن تخاطبه باسم المقاتل الأكبر والمحامي الأول والمهندس المؤسس وأفضل لاعب كرة قدم في العالم وبنى لنفسه بمساعدة فرنسا عرشا فلكلوريا ثم انتهى مع زوجاته بالعشرات لاجئا في قصر مهجور في فرنسا بمجرد معاش رقيب في الجيش الفرنسي،
وإذا كان تقبل تلك الالقاب في زمنها فإن الحد الأدنى من الموضوعية عند الكتابة عن أشياء تاريخية هو تنزيلها في إطارها واتخاذ موقف موضوعي منها، قرأت أكثر من خمسين صفحة منه على عجل، لأني حقا لست قادرا على شرائه، أو لم أجد مبررا لذلك، فقد أتاح لي أحد البرامج التي أنتجتها لإذاعة تونس الثقافية عن "تاريخ تونس من خلال تاريخ الصحافة"، الكثير من المعلومات التي لم أكن أعرفها عن العلاقة الغريبة الزعيم الحبيب بورقيبة بوسائل الإعلام، أستطيع أن أقول أنها أكثر ثراء مما قرأته في الخمسين صفحة من الكتاب،
كنت سأحب الكتاب لو جاء في صيغة سرد قصة الحب والوفاء الناتجين عن الإنبهار بشخصية الزعيم الحبيب بورقيبة من جانب رواية الجانب الأحادي الحميمي لرجل حظي بثقة الزعيم، لكن مع استخراج المعاني التي علينا أن نخرج بها من التاريخ الموجع لمراحل لم نشف منها مثل الصراع اليوسفي والقمع الذي حدث لأول مبادرات الحكم الرشيد التي انشقت عن الحزب الحاكم ثم مجموعات آفاق وما بعدها، بعد مضي كل هذا الوقت من التعسف والحكم المفرد المتسلط المبني خصوصا على التحكم في وسائل توجيه الرأي العام وأولها الإذاعة،
"المستمع الأكبر" تسمية تم نحتها على قياس عبارة "المجاهد الأكبر" وعلى مقاسها والتسمية غير موضوعية، قابلة للجدل الحاد في هذه الظروف السياسية والدستورية، ولا أجد لها تفسيرا غير الحنين إلى سنوات السيد الأكبر "الفاطق الناطق" الذي يعرف مصلحتنا أكثر منا، السيد الذي كانت تخصص له إذاعة السيد عبد العزيز قاسم صباحاتها برواق كامل تحت عنوان شعبي "يا سيد الأسياد، يا حبيبي بورقيبة الغالي"، كان سيد جماعته المتقربين منه وكان في كل مرحلة يرمي جماعة منهم ليعوضهم بنافقين جدد أكثر براعة، ولم يكن سيد تونس إلا بالقوى الصلبة وبآلاف المساجين والمنفيين واليتامى، ممن لم تكن الإذاعة العمومية تحس بوجودهم أصلا، فما بالك بآلامهم،
حسنا، بقيت عبارات كثيرة التواتر في الكتاب: الاتصال المباشر، الالتحام بالجماهير، الأحاديث والبرامج السياسية والاجتماعية، يجوب البلاد طولا وعرضا، يحفر الهمم، الأمة التونسية، الشعب، يحب الزعيم، كل هذه العبارات تنتمي إلى عصر الزعامات الفلكلورية، يفترض أن ننظر إليها حين نستحضرها، من باب الاحترام للناس بشيء من الموضوعية، لا معنى لأي كتاب خارج زمنه، وهذا الكتاب يعود بنا إلى زمن كتب الستينات.