أنا دخلت الصحافة التونسية في فيفري 1989 بمقال امتحان كان عنوانه "الخطاف لا يصنع الربيع" من تسع ورقات بيفتاك عن استحالة تحويل ما قام به بن علي في 7 نوفبمر 1987 إلى مشروع سياسي تحرري أيام الحديث عن إنشاء "حزب رئاسي" لعجز الحزب الاشتراكي الدستوري البورقيبي عن استيعاب طموحات الرئيس الذي لم يكن له أي ماض سياسي، وقد كتبت ذلك المقال في ذلك الوقت، لأنه كانت هناك حريات وكان سقف الطموحات أعلى من اليوم، بحكم مستوى الثقافة والالتزام السياسي وقتها مقارنة بثقافة جمهور الفيراج اليوم حتى أن صديقي العزيز عبد الدائم الصماري قال لي ساخرا بعدها بعامين فقط: "استنى حتى يجدوا الوقت لمراجعة مقالاتك في 1989، سوف يحاسبونك حتى على نقد انقطاع الضوء في دشرة نبر"، إذ سريعا ما اختفى أنصار مشروع الحريات والحكم الرشيد والتداول السلمي على السلطة وكأن شيئا لم يكن من الحلم وانخرط الجميع في موجة عبادة بن علي الذي أوصلنا إلى ما تعرفونه، سأعود إليه،
أنا أصلا، دخلت في فيفري 1989 مكتب رئيس التحرير في الطابق الثاني من مبنى دار الأنوار عن طريق صدفة نادرة، وأذكر أني قلت له: "اعطني ربع هذا المكتب، وسأكتب لك أشياء أفضل مما تنشره"، ضحك مني ساخر، التقط "رامة" ورق بيفيتك (بقايا ورق الطباعة المقصوص للتحرير) ورماها فوق الطاولة: "تفضل"، حول ماذا تريد أن أكتب لك؟ أضاف ساخرا: "ما تريد، اختر أنت الموضوع"، بدأت أكتب على طريقتي، ألوي ذراعي حول الورقة وانغمست، قال لي: "نحن هنا نكتب على وجه واحد من الورقة"، قرأ الورقة الأولى، ثم اكتشفت أنه ينتظر مني الورقة الثانية ثم ما يليها، عندما وصلت السابعة، قال لي: "فكر في إغلاق الموضوع"،
بلغت التاسعة ولم أرتو، لكني كتبت، تركني في مكتبه وغاب ربع ساعة لكي يعود مع الراحل صلاح الدين العامري الذي نزل من مكتبه في الطابق الرابع، كان يمسك الأوراق في يده، يراجعها بين الحين والآخر، "أنت شكون؟ من أين جئت؟" وهناك قلت هل دون تردد: "أنا خريج سجون بسبب مظاهرات، أنا أشتغل حاليا في حضائر البناء في المرسى، لكن أعتقد أن عندي ما يستحق الكتابة"، قال لي إنه يجد صعوبة في تصديق ذلك، وإنه سيمنحني فرصة، إلى أن يتبين حقيقة قصتي، لكنه لم ينشر المقال،
بعد أكثر من أربعة أعوام، كلفني بتصميم الصفحة الأولى لجريدة الشروق وكان يجبرني على البقاء معه حتى "تدور المطبعة وتستقر الألوان" وحكم علي أن أشتري علبة أقلام ملونة ذات 32 قلما لكي أرسم له ماكيت الصفحة الأولى بأقرب ما تكون، سألته عن مقال بن علي والخطاف الذي لا يصنع الربيع، ابتسم وقال لي: "الآن، تعرف كم كان مهما أنه لم ينشر".
بعد أقل من عام، عرفت أن الراحل صلاح الدين العامري كان سجينا في قضية غير عادلة وأن جزءا كبيرا من قراره كان بسبب ما رآه من تعرضي إلى مظلمة، "بشرط أن يثبت فعلا موهبته في الكتابة"، كما روى لي السيد حسن حمادة، مؤسس الشروق ورئيس التحرير وقتها، فقد كان رحمه الله، ليس فقط صياد مواهب بل صانعا لها خصوصا وكان موهوبا عميق الثقافة، ذا طموح غير محدود، لكني بدأت الكتابة فورا مع فيصل البعطوط رئيس تحرير الأسبوع المصور، التي توقفت بعد ذلك بقليل، ثم ذهبت للكتابة في جريدة الصحافة، حيث عرفت العزيز إبراهيم الصغير الخليفي، الذي كانت لديه موهبة تبين الجملة والمعنى الصافي للغة الصحافة، كان يردد لي: "عندك القماش، كل ما في الأمر أن تتعلم الفصالة"،
وهو ما سيتأجل بسبب ظروفي الاجتماعية حتى 1994 عندما دخلت معهد الصحافة بخشوع، بعد عدت إلى الشروق في جانفي 1990، ولولا بقية أساتذة مجتهدين ومكتبة المعهد في مجتمع لا يؤمن بالإبداع بقدر ما يسألك عن شهائدك لما كان هناك مبرر لأربع سنوات من ألم الجوع والحرمان من الحياة بسبب الجمع بين الدراسة والعمل، فقد كان عليّ أن أبحث وحدي عن تراث مؤسس المعهد أندري بوايي في صحافة صيد الأخبار "chasse aux nouvelles" التي انقرضت من معهد الصحافة،
هذا المقال ليس عن قصتي الشخصية، بل عن قصة "أكل الحقوق والأحلام العامة تدريجيا"، ليس من الرئيس بن علي، بل من المحيطين به من الحالمين بعودة الطاغية الذي سيجدون في ظله حماية لكل نوازع الشر من السرقة والظلم والتسلط على حقوق الناس، والدليل أننا بعد بيان 7 نوفمبر بعامين أصبحنا خائفين من عودة القوادين إلى ما كنا نكتبه في 1989 وما بعدها، وكثيرون منا سارعوا تحت ضغط الماكينة الجبارة للقوادة والقمع إلى "التكفير عن ذنوبهم" في نقد النظام والحديث عن الفصل بين السلط والمحاسبة عن الفساد والتداول السلمي على السلطة التي تحولت تدريجيا إلى جرائم تآمر مخيفة على المصلحة العامة والوطن،
وقتها اكتشفت سخرية كاتب مثل ماركيز من تصور خدم الطغاة من مفهوم الوطنية، وبعدها بأعوام قليلة، كان أغلب الصحافيين يتقاتلون على نيل أوسمة الثقافة وعطايا وكالة الاتصال الخارجي مقابل، ليس الصمت على جرائم النظام، بل تبريرها وشيطنة الضحايا: لقد كانت تلك هي الوطنية في ذلك الزمن الحزين، لا شيء أسهل من تحويل الانفراد بالسلطة إلى طغيان وإثراء إجرامي سريع باسم الدولة،
لا شك أن بن علي استعذب مديح الطاغية وأعجبه البقاء في السلطة إلى الأبد ثم توريث ابنه أو زوجته حتى لو كان ذلك ثمنا لهلاك جزء من الشعب، ومن المؤكد أنه كان مهيأ للطغيان والتعسف أكثر مما هو مهيأ للعدل والعدالة، لكن ذلك لم يكن خطأه بقدر ما كان خطأ المجتمع الذي جمع حوله أنواعا متنوعة من الزنوس الذين خلقوا له كل الأفكار المناسبة لكي يستعذب الطغيان، وأنا أكتب هذا، لما أراه من تزيين الانفراد بالسلطة واحتقار الحقوق الفردية والعامة والجاهزية للتضحية بها مقابل وعود وهمية بمقاومة الفساد أو الثراء الجماعي أو عودة الماء أو الضوء أو تدفق المساعدات الدولية أو القروض، فكل مشاريع الاستبداد بدأت بمثل هذه الوعود، الفارق الوحيد هي هذه الموجهة الجارفة من الشعبوية العنيفة، لا أستطيع أن أفكر في حسن نوايا السيد الرئيس أو نزاهته، بل في المناخ الذي يصنع الطغيان،
"قالوا يا فرعون مين فرعنك ؟ قال: ما لقيت حدا يردني"، يقول صديقي الشخصي سابقا، الكاتب الحر سليم دولة: "من أعجبه فقد أعجبه، ومن لم يعجبه فله وحشة الطريق وقلة الزاد ووعثاء السفر"، والكثير من عار مديح الطغيان، وصحفي آخر، سوف يكتب بعدي ما أكتبه اليوم، وكأننا لم نتعلم شيئا،