15 أكتوبر تجمعت كل معطيات الموسم الفلاحي البائس المزوحل أي ظهر في سمائه كوكب زحل في أكتوبر، ثم بسبب الجفاف والخوف التاريخي عند الفلاحين والنقص في البذور الممتازة وفي كل شيء، لكن لماذا يزداد الفلاحون فقرا وهم يتلفون البصل عاما وتستورده الدولة عاما آخر ويسكبون الحليب في الأودية عاما ونستورده في العام الموالي؟ ولماذا من حقنا أن نخاف من أن يصبح كيلو البطاطا بخمسة دنانير مثلا؟ ولماذا سبقنا ناشطو جمعية ألمانية إلى النجاح في زراعة البطاطا بين الفصلين جنوب ولاية الكاف، حيث كان يجب أن ينجح خبراء الإرشاد الفلاحي الأزليين؟
أول خارطة فلاحية في برّ تونس عملها الرومان الذين كانوا سادة الماء والأرض، وهي تقوم على فكرة "نزرع ماذا في أية أرض وبأية كلفة" من أجل تحقيق الأمان الغذائي والتوازن بين الإنتاج والاستهلاك وتحويل الفائض إلى سلاح وقيمة تبادل تجاري دولي، أنظروا أين وضع الرومان أبناءهم في أرض أفريكا وستعرفون أسرار القوة في هذه الخارطة،
العرب عملوا الكثير في هذا المجال إلى أن جاء الأندلسيون الذين أضافوا الكثير من العلوم، ثم جاء الفرنسيون ليكتبوا أول خارطة فلاحية في تونس في 1923 والتي ما تزال سائدة إلى اليوم: الشمال الغربي للزراعات الكبرى والغابات، الوطن القبلي للقوارص والبقول، الساحل للزياتين، الوسط الغربي للمراعي وتربية الماشية، الجريد وما حوله للتمور والصحراء للنفط،
أول محاولة لتحديث الخارطة الاستعمارية كانت في 1983، إنما لم تنجح، لأن الدولة لم تكن متحمسة لتغيير الوضع، رغم أن إعادة رسم الخارطة الفلاحية يعتبر أهم استثمار في تونس، لأن الدولة التونسية لا تعرف أصلا أملاكها الفلاحية التي لا تقل عن نصف مليون هكتار من أخصب الأراضي ويمكنها نظريا أن تحقق تعديل السوق في أية مادة فلاحية وهي لا تعرف لها استعمالا لأنها لا تخضع لأية حوكمة أو أهداف وطنية سوى إعطاؤها للكثير من المحظوظين غير القابلين للمحاسبة ونحن لا نعرف عنها إلا ما ينشر بين الحين والآخر عن "استعادة 50 هكتارا" بعد 18 عاما من النزاع القضائي أو أن 60% من مياه الري تضيع في الطريق أو أن 47% من المنتفعين بمياه الجمعيات لا يدفعون ما عليهم، لكن لا أحد يجد الوقت لطرح السؤال المنهجي: نزرع ماذا وأين وبأية كلفة؟
لا أحد فكر في حملة واسعة لتحليل التربة والماء والمناخ في برّ تونس لكي يعرف الناس يزرعون ماذا وأين ومتى، بأية بذور وأية أدوية وأية كلفة، وهذا السؤال يزداد إلحاحا في ظل النقص الفادح في الماء والبذور والعلف وخضوع المنظومة كلها إلى الفساد ولوبيات التوريد وإغلاق السوق،
العام مزوحل بالطبيعة، ولا أستبعد أن نستورد البصل والطماطم وأن يبلغ ثمن الدجاج 15 دينارا واللحوم الحمراء 50 دينارا وأن تنشأ أسواق لكركاس الدجاج وعظام البقر من أجل ريحة اللحم، في عالم يباع فيه الخروف بـ 60 دولارا في الأسواق الدولية وتتكلف علينا تربيته بأكثر من كلفة غذاء البشر يوميا، لأنه لا أحد فكر في المراعي ولا في صناعة العلف محليا، لأن استيرادها لا يكلف المافيا شيئا، دولة الاستيراد في مواجهة الخارطة الفلاحية، هكذا هي الحياة،