ثمة خيط ناظم بين موت الشابة ليلى اليحياوي لغياب التغطية الصحية منذ حل هيئة مكافحة الفساد وتجويع نواب الشعب منذ حل المجلس (إذا كنت تعتقد أن الـ 217 نائبا يستحقون ذلك فأنت تقرأ المقال الخطأ، تعدى خويا) وصولا إلى القضاة المعزولين، هذا الخيط هو الحرمان من العيش الذي لا يليق حتى بالحيوانات كما في حديث المرأة التي دخلت النار في قطة: "لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"،
السلطة عندنا عندها علاقة دموية بشعبها، بورقيبة كان يوافق على القتل من أجل السلطة، وكان حوله أشخاص لا يترددون في اغتيال أي شخص يعكر مزاج الزعيم، لم يكن يؤمن بالمعارضة أصلا، قالها لمجموعة من المثقفين في قصره بعد أن نكل بهم في سجن غار الملح الرهيب: "ما عنديش معارضة، إلي يحب المعارضة يهز السلاح ويطلع للجبل"، الغريب أن جماعة بورقيبة لم يجوعوا أحدا، أعرف كثيرين من أهلي تعرضوا للتعذيب والسجون ثم عادوا إلى مهنهم في التدريس، بل كانت أجورهم تجري عادية في غيابهم،
بن علي هو الذي اخترع سياسة الأرض المحروقة، فقد كان يتمتع بالقتل والتعذيب بنفسه ثم أصبح يترك ذلك لقواديه حين كثرت مشاغله لحماية أهله وأصهاره في النهب وكان القوادون حوله يجتهدون في مضاعفة التنكيل بمن يزعجه بمنعه من العمل والسفر والحياة أصلا وحتى طرد زوجته من مهنتها وحرمان أبنائه وأقاربه من الوظائف العمومية بتقرير قوادة،
أذكر أستاذا شابا أوقفوه لأنه كان يعين أخته وهي أم لثلاثة أطفال بعد إيقاف زوجها في السجن، دبر له الشرطة قضية جمع تبرعات وتوزيعها دون رخصة، الدليل: قفة قضية أسبوعية لأخته وأطفالها فيها الحد الأدنى لكي لا يأكلوا التراب وليبقوا على قيد الحياة، غادر السجن بعد عام مطرودا من عمله فتبرع له بعض أهله بحانوت دجاج لكي يعيش فقام قوادو النظام تحت مراقبة الشرطة بحرق الحانوت ليلا بما فيه من دجاج حيّ، انتهى الرجل في أنشوطة حبل في سطح منزلهم بعد أن أغلقوا عليه كل طرق العيش،
كثيرون في ضاحية المروج يعرفون القاضي المعزول الذي كان يبيع الخضر على كريطة في السوق لدفع كراء المنزل وإعاشة أبنائه ومعاناته الدائمة مع الشرطة التي تتمتع بإتلاف سعلته البسيطة أو حجزها وإعطائها لأحد القوادين، الحياة كان جحيما، ليس لمن يعارض النظام، بل لكل من تلصق به الشبهة حتى كذبا،
حل مجلس النواب مع إبقاء نوابه وموظفيه دون قرارات إدارية بالتسريح للعودة إلى وظائفهم الأصلية مع حرمانهم من الضمان الاجتماعي ليس بعيدا عن ذلك الوضع، النتيجة وفاة زوجة أحد النواب لتوقف حقها في العلاج ثم نفس الوضع لموظفي هيئة مكافحة الفساد والآن السادة القضاة، في انتقام شنيع من موظفي الدولة، لا هي مطلقة ولا هي معلقة حتى تموت جوعا أو كمدا، تذكرنا بمقولة "الملك عقيم"، حيث الحاكم العربي لا يتورع عن قتل أبيه أو أخيه من أجل السلطة،
هل الظلم ورثة؟ ما يوجع حقا في وفاة الشابة ليلى اليحياوي هو أن أخاها الشهيد زهير اليحياوي قتلته الدولة ظلما وغيلة إذ ليس لدي أي شك أن موته كان نتيجة التعذيب الشنيع الذي تعرض له وأن قتلته ينفقون أموال الترقيات والمكافآت على قتله حتى اليوم، عمه كذلك، القاضي الفاضل مختار اليحياوي الذي جعلته الدولة يذوق أمرّ "الغصايص" من الظلم والتعسف لجعل حياته جحيما مستحيلا لأنه طالب نظام بن علي بشيء من العدالة في العدالة وبطريقة مؤدبة،
الآن كلهم أخذوا ملفاتهم القضائية وذهبوا إلى قاضي السماء حيث لا يخفى شيء، حيث العدالة المطلقة والعقاب الأبدي، إنما كم هي شنيعة هذه السلطة العربية، أذكر مرة مع عدد من الزملاء الفرنسيين قلت لهم إننا كنا تلاميذ في الثانوي قضينا في السجون ثلاثة أعوام من أجل مظاهرة في معهد، قال لي أحدهم: « excusez-moi monsieur, j’ai du mal à croire qu’un Etat peut emprisonner un écolier pendant trois ans pour une manif ? » Et pourtant !
لقد هلك كثيرون تحت التعذيب بأيدي أعوان الدولة، ومات آخرون جوعا لأن الدولة منعتهم من حقوقهم الدنيا، وتعرض الآلاف إلى الإيقاف العشوائي في الفجر لأسابيع وأشهر دون أي حق في السؤال أو المحاسبة، هذه الدولة التي لا تقبل المحاسبة أو المسؤولية عن أفعالها، فما بالك أن تعطي معنى لما تفعله بنا، حتى في وضع القطة التي لم يتركها أحد تأكل من خشاش الأرض، اللعنة.