نور الدين يا صاحبي، سيغضب مني كثير من أصدقائي هنا لكني لا أستطيع أن أشد نفسي إزاء حادثة وزير الفلاحة وهو يوبخ موظفي وزارته في ولاية تطاوين بسبب موائد الأكل "لسنا في وليمة"،
أثار تحفظي أصدقاء اعتبروا ذلك طبيعة كرم متأصل في أهل المكان، بالشوية: يجب أن يفهم الناس في أريافنا أنه ليس ضيفا أو عابر سبيل تقطعت به السبل لنبذل له أنفسنا، بل موظفا حكوميا يخلص من ضرائبنا لأجل حسن إدارة شؤون فلوسنا التي يقتطعها أعوان الدولة من لحمنا باسم الضرائب وأنه يحصل مع أعوانه على منح تنقل تكفي للأكل والإقامة، وأنه لا مبرر لكي يعيد أعوان الدولة مع كل زيارة مسؤول، الاقتطاع من اللحم الحي للفقراء تلك الأكلات الفاحشة من العسل والمرطبات المحلية والكسرة المطبقة والعصائر، أقول لهم: عندكم الشجاعة؟ انشروا فواتير شراء تلك الأشياء التي نبخل بها على أبنائنا بسبب أوقات الشدة التي نعيشها؟
أنا سأقدم لكم شهادة لأحداث عشتها على مدى أكثر من ثلاثين عاما من العمل الصحفي الميداني: أولا ليس هناك وزير يأكل ما تعدونه له في زياراته الميدانية إلا التذوق أمام الكاميرا من باب الأخذ بالخاطر، ثانيا: ما تعدونه يأكله "الشوفرة" والحراس والوزاكة وبعضهم يملأ جيوبه على عجل إن لزم الأمر باللحم المطبوخ وهي فرصة لتنمية عقلية النهب والسرقة ما أن ينصرف الوزير، ومرة في أحد أفقر ولايات الغرب حدث عراك بالبونية بين الشوفرة وبعض الموظفين على تقاسم الموز وصل حد تبادل العنف وتدخل الأمن،
في عام 1990، كنت ما أزال صحفيا مبتدئا حين أرسلني رئيس التحرير في أثر "موضوع ضايع": وزير ألماني للتعاون الدولي يريد أن يرى بنفسه ماذا فعلنا بفلوس بلاده لكي يقدم تقريرا لبرلمانها، كان يرافقنا وزير تونسي حتى آخر منطقة حضرية في ولاية جندوبة حيث كانت تنتظرنا وليمة من عدة خرفان مشوية مع ما يلزمها، ثم عاد مع جماعته، لاحظت أن الألمان رفضوا الأكل، سألني مرافق الوزير الألماني عما إذا كنت أريد أن أستمر معهم، قلت نعم لأني لن أملك أية فرصة لزيارة تلك المنطقة المقطوعة عن العالم إلا على تلك السيارات الثلاث الجبارة التي جلبها الألمان، وجدنا أنفسنا بلا حرس ولا زازة ولا حس ولا قوادين نقتحم مجاهل أرياف تونسية لم يدخلها أي مسؤول تونسي، قطعنا أودية متوحشة وغابات غامضة بين مرتفعات الدواوير، تنبحنا كلاب لا تفرق بين "التويوتا رباعية الدفع" والبقرة، لا أحد قدم لنا وقتها شيئا بل قال لنا أحدهم تعال لترى العلق في ماء الشرب، لم يأكل الوزير الألماني ولا مرافقوه ولا نحن شيئا ولا حتى شربة ماء، حيث كان ينتظرنا ريفيون بسطاء وحيث يبدو العالم شديد البؤس والناس يئسوا من رحمة البشر والحكومة ولم يبق لهم سوى الله، وحيث يمكن التأكد علنا من فساد مسؤولي الدولة من أعلاها إلى أسفلها،
وفي 1991، في إحدى ولايات الوسط الغربي، نسيني جماعة نقل الوفد المرافق للوزير حيث لم نكن متساوين في المعاملة حسب المؤسسة الإعلامية، المهم خلوني وذهبوا وسط الغبار والضجيج ودوي الكراهب الحكومية الجبارة، فوجدت نفسي "مطيش" مع جماعة الكسرة المطبقة والعسل واللبن، وقالت لي عجوز هناك في الثمانين إنهم جاءوا بها "بالسيف" لتزيين الوجه أمام الوزير وأن ممثل الشعبة الذي يملك أيضا رخصة نقل ريفي ورخصة عطار ومقهى ورخصة أعلاف أجبرها على إعداد الكسرة المطبقة والأبراج قد نسيها في فوضى ملاحقة الوزير من باب الاحتقار في المكان الذي يبعد عن بيتها أكثر من 12 كم وأنها لم تحصل على مليم مما قدمته لهم كما كل مرة وقالت لي بمرارة دعاء شرّ حاشاكم بالرهج لكل من تسبب لها في ذلك وهي التي قضت ليلها تعد الكسرة، من وقتها، أصبح طعم أكلات زيارات المسؤولين مرّا في حلقي مصبوغا بالظلم والسرقة والتعسف وأقسمت أن لا يدخل بطني أبدا مثل ذلك الأكل،
عاد في نهاية التسعينات، كانت وزارة الفلاحة تنظم ملتقى في أحد أفخر نزل العاصمة وكان المكلف بالإعلام صديقا صحفيا قديما، عاد أنا وصلت متأخرا إلى الملتقى فوجدتهم جميعا في المطعم فذهبت إليهم، عاد السيد المكلف بالنظام العام في الوزارة اعتبرني أشعبا جاء يريد أن يفطر بلاش في وتيل ذي خمسة نجوم ونبزني وأمرني الخروج مهددا أن يخرجني بالسيف فخرجت بنصف كرامة، عاد قضينا بقية اليوم، هم يعتذرون لي وأنا أرفض حتى الماء، ياخي دين سماكم، "باش تذلونا على كروشنا؟ نموت بالشر ولا آكل من أيديكم، يعطيكم رهج"،