"هذا دستور على مقاس الرئيس"، يقول السادة فقهاء القانون، يبتزنا دهاقنة* السياسة في تونس بالقول: "هذا أفضل من أن يصبح الغنوشي رئيسا"، وهو نقاش غير نزيه مقارنة بثراء نقاشات 2012 عن النظام الدستوري وقتها رغم خبث نوايا البعض بخصوص الحكم الرشيد، كانت هناك مخاوف حصيفة من النظام الرئاسي في دستور 1959 واتفاق عام على أنه سبب كل الانحراف بالحكم نحو السلطة المفسدة التي تخلق حتما بطانة تملق حول الرئيس والرئاسة مدة الحياة، كثيرون قالوا في فزع: "ماذا لو أصبح الرئيس من النهضة أو قريبا منها وهو بهذه السلطات؟" أو عبروا عن الفزع من أن تجمع النهضة بين رئاسة الدولة ورئاسة مجلس النواب، كانت النهضة ما تزال تتبنى "الحكم الإسلامي" مزهوة بحضورها المخيف في الشارع وتسيء قراءة كل المؤشرات قبل أن تستنزفها أيام الحكم،
اتفق الجماعة على المسارعة إلى تحجيم دور الرئيس وتوزيع السلط حتى إذا فازت النهضة بشيء واجهوها بشيء آخر، لكن كان ثمة إجماع مقنع على أن أسوأ ما يمكن أن يحدث لنا هو رئيس بصلاحيات مطلقة، وإذا كان نهضويا أو قريبا من النهضة فهي الكارثة، ليس فقط بسبب المخاوف من الاستثمار في أنصار دولة دينية معادية للحقوق، بل لأن "دهاقنة السياسة" يعانون من مرارة الفطام من السلطة التي تبيت في بيوت نومهم منذ عقود، لكنهم كانوا خائفين من هدير الشارع الذي وقداسة مطالب الدماء التي ما تزال ساخنة،
بالنسبة للسلطة التشريعية، كان ثمة حل مؤقت: تمكين الجميع من الوصول إلى مجلس النواب من أجل ضمان أكثر ما أمكن من ثراء التعبيرات السياسية للتأسيس وإضعاف النهضة، طالما ذهبنا إلى التأسيس بدل إصلاح القديم على أساس العودة بعد ذلك سريعا إلى العتبة الانتخابية وترشيد العمل السياسي لدفع التيارات السياسية إلى التحالف من أجل الوصول إلى البرلمان لكن أحدا ما رأى أن أفضل طريقة لإيقاف الانتقال الديموقراطي هو الإبقاء على التشتت السياسي في البرلمان، ومنع أي طرف مهما كانت قوته من الحكم حقا بتحقيق 50%+1 إلا بالتحالف مع خصومه أو من التقاط النفس للتخطيط من أجل فترة حكم دستوري، وجعله يلهث وراء الاستجابة اليومية للطلبات المشطة التي تبدو في ظاهرها معقولة وشرعية،
لكنها كانت للتنكيل وإبقاء الوضع المتشنج حتى يقتنع العامة بأن أسوأ ما حدثهم لهم هي الديموقراطية ويشتاقون إلى المستبد، لقد اشتغلت عدة مؤسسات إعلامية بدأب وجهد على ذلك، إلى حد الحنين العلني إلى بن علي نفسه، مع عناوين تتحسر على زمنه وتتمنى عودته وتوظيف حتى صور ابنه وريثه الشرعي الذكي الناضج وهو في المراهقة، ثم كان يكفي إطلاق "العيارين*" في الفضاء العام: من الإعلام إلى الانتخابات إلى البلديات إلى الجمعيات، المهم "إدارة توحش الفوضى والإفلات من العقاب" بذكاء حتى أنك ترى أشخاصا مطلوبين للقضاء في جرائم مخلة بالشرف يظهرون في وسائل الإعلام للفتوى فيما يجوز ولا يجوز وإجبار من في السلطة سواء كان منتخبا أو موظفا ساميا على النزول على ركبتيه للتعاطي الإيجابي معهم، لقد رأيت أكبر الكفاءات في الدولة الوطنية تهان وتضرب على رؤوسها مطرودة من السلطة على أيدي العيارين، وقد عادوا،
لا أعتقد أن من أدار تلك الحملات كان يقصد عودة بن علي حقا، لكن من المؤكد أن هدفه الخفي هو منع أي تطور إيجابي في الحكم وترذيل الديموقراطية والحكم الرشيد والتداول السلمي على السلطة وجعلها مرادفا للفوضى واللصوصية والفساد وغياب السلطة، ها قد أوصلونا إليها: ليس فقط أن تعود من ساحة الحرية والمسؤولية جريا إلى اسطبل القطيع بحثا عن حماية كلب الراعي، بل أن تشتم وتخوّن كل من لا يعود معك إلى الاسطبل،
إذن، دستور على مقاس الرئيس؟ رئيس لا يسأله أحد أبدا عن أي شيء، يحكم بلا مراقبة ولا معارضة وكل الحقوق مرهونة لديه بالمصلحة الأمنية والعسكرية والخطر الداهم وهو الذي يحدد هذه المصلحة، ستكون كل السلط تحت يده هو فقط، حين لا تتفق معه، يعزلك وليس لك الحق في الطعن أو الاعتراض، هنا، يعود العيارون إلى الساحة، ليس لترذيل فكرة الديموقراطية وقريبا فكرة التداول السلمي على السلطة، بل خصوصا لشيطنة كل من يناقش ذلك: مناوئون، نهضة، فاسدون، يتلقون أموالا من الخارج، هل قال بن علي شيئا أسوأ من هذا؟
*دهاقنة: جمع دهقان، من الفارسية، زعيم أو تاجر المدينة الغني الذي يمارس السلطة خفية ويتدخل في تعيين الحاكم والقاضي،
*العيارون والشطار: طائفة غوغائية يجمعها تحليل اللصوصية باستعمال العنف الجماعي، ظهرت عند ضعف الدولة العباسية في بغداد، أغلبهم يصبح من "التوابين" حين يتقدم في السن ويشتغل عند السلطان في كشف السرقات والتوسط عند العيارين لإعادة المسروق بمقابل،