أصدقاء هنا بدا لهم أن وضع القاضي الفاضل بشير العكرمي (أعرف عما أتحدث) يشبه فيلما أمريكيا شهيرا Changeling للمخرج الرائع كلينت ايستوود، عن المرأة التي اعتبروها مجنونة لتتفيه وجعها غير القابل للسلوى عن فقدان ابنها، ورغم أن الفيلم يعطي المرأة مساحة تعبير، فإنه لا أحد من صحافة برّ الأيالة التونسية المنكوبة أعطى عشر دقائق من الاحترام لهذا القاضي لكي يقول حقيقة الحق العام حتى في إطار حق الرد أو التوازن في رواية ما حدث، أستطيع أن أقول إن ما تحمله طيلة أعوام طويلة في صمت تنوء به الجبال،
وعبارة Changeling في الثقافة الأوروبية شديدة الأهمية، تعني أن تتعمد كائنات خرافة: الغولة، العبيثة الأرواح الشريرة (أو الرهابين عندنا)، اختطاف مولود لاستعباده وتعويضه بلعبة لخداع مشاعر الأم المجروحة إلى الأبد، الفيلم نضال الأم في أثر رائحة كبدها، الحقيقة الوحيدة القابلة للتمجيد في هذا العالم البائس والتي يحتفي بها المخرج في فيلم خاسر تجاريا لكنه متعة، إنسانيا،
وما دمنا في السينما لمعالجة الوجع العام، فأنا أفضل مقاطع من فيلم لا أحفظ اسمه للنجمين محمود ياسين ونجلاء فتحي التي يتعرض أبوها للإيقاف الظالم بتهمة محاولة اغتيال وزير الحربية في مصر، فيما كان هذا الوزير في الحقيقة ليلتها يسهر للسكر والعربدة، تصدمني صرخة الأب بعد أن دفعوه تحت تأثير التعذيب إلى الجنون مفتخرا بانتقاله من الحياة اليومية لمواطن بسيط إلى "أنا قتلت وزير الحربية"،
ما يهمني في المقطع هو المسار الموجع للرجل تحت التعذيب المفرط لأجهزة الدولة الذي تعرض له الرجل الطيب البسيط حتى أصبح هو مقتنعا أنه هو فعلا قتل وزير الحربية الذي عثرت عليه المخابرات سليما معافى، واستقر في ذهنه أنه اقترفها فعلا، وأن أفضل ما يفعله للتخلص من العذاب هو تقبل هذه الكذبة واعتبارها حقيقة صلبة، هذا اسمه دفع إنسان نبيل إلى الجنون، أخراجه من المصداقية والكرامة الإنسانية، هل اخترعت البشرية شيئا أكثر شناعة من هذا؟ نحن في المقدمة،
كم يذكرني هذا الوجع بروح القاضي الفاضل مختار اليحياوي، خطيئتنا الجماعية، هذا النوع من القضاة الذي يأتي مرة كل عشرة إلى عشرين عاما، كنت أسرق نفسي للذهاب إليه متسللا أيام كنت أشتغل صحفيا على الأحداث القضائية في سنوات محنته، قال لي مرة: "خلعوا باب مكتبي وفرضوا عليّ أن أبقيه مفتوحا ثم أصبحوا يفتشون سلة المهملات". بعد انهيار نظام بن علي، كان أول شخص حرصت على محاورته لجريدة الشروق في بيته في نهج بلجيكا، مازحته وأنا أنظر إلى كوبة الباب "سيدي الرئيس، أخشى أن يكون الباب مخلوعا؟"، وقد ترك لي انطباعا مرّا بأن شيئا مخلوعا بقي بلا قفل في المجتمع التونسي، هو ظل وفيا لنفسه ومبادئه حتى أصريت على دعوته في كل دورات التدريب على صحافة الاستقصاء للتذكير بالحقوق القضائية،
قال لي مرارا: "أخشى أني سوف أخيب أملك" إنما كم كنت فخورا بحضوره الطاغي وكان معي مدرب هولندي من أصل مغربي لخص كل شيء: "هذا رجل صلب، هذا رجل لا يمكن التأثير فيه". كنا وقتها في فوضى القيم وكان نجما مضيئا، يمكن تحويله نضاله إلى مؤسسة حقوقية تحرص على دعم استقلال القضاء، إنما نحن لا نحسن اقتناص الفرص للتخلص من أمراضنا المزمنة، حتى أننا نعيدها مع قاض آخر،
هذا العالم البائس كله، بصحافته وكرانكته الخالصين ماليا مرتين: مرة من مهنهم الأصلية ومرة من اللوبيات المنتفذة وبرأيه العام وسياسييه يتحالف مع الأجهزة التي لم تخضع أبدا للسيطرة في أي وقت، لكي نصرخ ونردد معا "نحن قتلنا وزير الحربية" بصفتها حقيقة جماعية مزيفة لا يمكن استخلاصها إلا تحت التعذيب الذهني الممنهج في بلد إنكار الحقائق والأكاذيب الحقيقية الثابتة بفعل الـ matraquage اليومي، ومن لا يصرخ معنا ومثلنا فهو الخروف الأسود وسط القطيع الأبيض، الثور الأبيض الذي أكلوه أولا، دون أن ننتبه إلى أنها مسألة ترتيبية، أصلا: ما معنى خروف؟ وما معنى أبيض؟