أفتتح أخبار الثامنة على القناة الوطنية بخبر إيقاف الأستاذ المهدي زقروبة المحامي، وفي غياب بلاغ رسمي بمبررات الإيقاف أنقل ما أمكن من كلمته خصوصا وهو يعلن عن "إذعانه للقرار بإيداعه السجن"، أبحث عن موقف النيابة العمومية حامية الحقوق العامة، وأذكر باصطدامي بالمصيبة في المحاكمات العسكرية وهي أن وسائل الإعلام لا تستطيع العمل: لا يمكن استجواب القاضية التي أصدرت قرار الإيداع بالسجن ولا ممثل الادعاء العمومي في المحكمة العسكرية، فهم رغم كل شيء، عسكريون لا يتحدثون، سواء إلى العامة أو إلى وسائل الإعلام، لذلك أجمع الخبراء على أن المحاكم العسكرية هي محاكم استثنائية يتعارض وجودها مع مبدأ المحاكمة العادلة، (60 ثانية)،
أستجوب عميد المحامين عن الموقف القانوني من إيقاف زميله وعن مدى مطابقة ذلك للإجراءات، (30 ثانية)،
أعود إلى كافة خلفيات القضية حسب التطور الزمني مع البحث عن طبيعة حضور الأستاذ زقروبة في المطار من أجل ضمان حقوق منوبته التي تم منعها من السفر، لأعود إلى سماع خبراء القانون الجزائي في وجاهة إيقاف محام أيا كانت التهمة المنسوبة إليه، وما إذا كانت العدالة "بحاجة إلى إيقافه لكف خطره وأذاه على المجتمع" إلى حين المحاكمة مثلا؟ (30 ثانية، الجملة: دقيقتان لكي يكون الشعب على دراية بما يحدث، مش الشعب هو الذي يقرر؟)،
حسنا، أحس أن هذا الكلام قد يدخلني في منطقة "الظل العدلي" والمهني، حيث يزداد الإلحاح على سؤال: "أنت أين؟ معنا أم معهم؟" ويؤدي إلى تناقص الأصدقاء واستحضار مقولة سيدنا لوط "لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن رشيد"، وثمة جاهزية للحربوشة الشعبوية في الإحالات الخاطئة: "زقروبة محامي نواب ائتلاف الكرامة الذين تم الاتفاق على كونهم إرهابيين كلهم، أو مشاريع إرهابيين، إذن هو إرهابي لأنه محامي إرهابيين، إذن بالمنطق الأرسطي: كل من يدافع عن الأستاذ زقروبة هو إرهابي بالضرورة ولا يصلح لأن يكون إعلاميا"، لا تستهينوا بهذا، فهو الخوف في المستقبل، لكن مش مشكل، "كان ما عندك ما عملت، توه تروح"، وتحمد الله على السلامة،
في عبثية الحوار مع البوجادية
نحن وصلنا إلى مرحلة الهذيان الشعبي الجماعي، ثمة شخص أعرفه بدأ معي النقاش بعبارة "اش ربحنا منها الديموقراطية متاعكم كان نواب المافيا" بنبرة ساخرة مهددة، وهذا خطاب شعبوي يهدف إلى رمي الرضيع مع ماء الغسيل، لكن الهذيان ليس هنا، بل حين قلت له إنه لا يمكن تسيير الدولة إلا بميزانية تقوم على ما تتوقعه الدولة من مداخيل ومن أبواب الإنفاق وفق الأولويات والسياسة العامة وأن هذه الميزانية تحتاج قانونا تعده حكومة يصدر عن السلطة التشريعية ويكون القانون ملزما للدولة تجاه شركائها والمتعاملين معها،
والجواب سلسلة من الشتائم والتخوين باعتباري "معاهم ندافع على الفساد، خربتوها البلاد" والخلاصة: "أش ربحنا منها الميزانية متاعكم كان السرقة؟"، باهي، كيف ستدير الدولة نفسها إذن؟ يجيب: "الفلوس الي سرقتوها تكفي الميزانية عدة أعوام وقيس سعيد يعرف كيف يجلب تلك الأموال من تحت الأرض ويعرف كيف يدير الموظفين في وزارة المالية، حين تنتهي السرقة والاحتكار ستنخفض الأسعار وستفضل الفلوس"،
قلت له: لكن الموظفين لا يصنعون السياسات ولا يناقشون جدواها ولا إمكانية تحقيقها أصلا، بل ينفذونها فقط، كيف يمكن إعداد ميزانية دون نقاش عام؟ يقول: "نقاش السراق انتهى، لسنا بحاجة إليه ولا عودة إلى الوراء، السيد الرئيس يعرف كل شيء ولسنا بحاجة لكم ولا حتى للقروض"،
ثمة أوقات يفقد فيها النقاش جدواه، لقد بدأت في الأشهر الأخيرة بدراسة التيارات الشعبوية وخصوصا البوجادية، نسبة إلى الشعبوي الفرنسي بيار بوجاد وصولا إلى التيارات "الشعبوية الحداثية" في أمريكا وأوروبا، ذلك أن الآفة التي تضربنا اليوم في تونس، تعتبر أننا لسنا بحاجة أصلا إلى قانونية ميزانية، يعني الصرف "إلي يطيح" في كاسة الخزينة العامة ننفقه مثلا؟ يتعارك الوزراء حول من يصل قبل الآخر إلى الكاسة لخلاص موظفيه؟