درس بنڤردان..

Photo

عاشت ستين عاما بين تهميش الجغرافيا وتهميش السياسة. الصحراء والحدود والدولة. ومع ذلك بقيت متشبثة بالوطن تشبثها بالحياة. همشها بورقيبة بسبب مناصرة أهلها لصالح بن يوسف، فلم يترك لها سببا للبقاء، إلا أنها لم ترتض بدور الضحية، وتقدمت لتفتك لنفسها مكانة، سوقا تأتيها السلع عبر الحدود ويتزود منها التجار المتجولون والمقبلون على الزواج والعابرون. بنڤردان هذه سبقت الثورة ببضعة أشهر، نتذكرها ذات رمضان صيفيّ سنة 2010، عندما خرجت على بكرة أبيها في وجه النظام النوفمبري، ولكنه عمي وصمّ، وفقد كل الحواس. حتى جاءت 17 ديسمبر.

ثم نتذكرها خاصة وهي تفتح كل أبوابها لمئات الآلاف من اللاجئين الليبيين تقتسم معهم القوت والماء والدواء. مخيم الشوشة. كما نتذكرها في خضم ما شعر به المنتصرون في انتخابات 2014 من صلف، عندما حاصروا المدينة في الهامش الذي وسّعته لنفسها عبر العقود. فما كان منها إلا أن تنتفض في وجوههم، نتذكر آنذاك أن الصحف الصفراء نعتتها بأنها تسهل مخططات الإرهاب. وجاء ذلك في إطار حديث بعض السياسيين عن "خشائش الإرهاب" وعن الخروج عن حظيرة الوطن. ونرى اليوم أن من صدق أولئك السياسيين والإعلاميين والمحللين المزيفين هم الإرهابيون فقط، وأما بنڤردان فقد كانت عصية عليهم.

لقد ظن الإرهابيون أنها يمكن أن تفعل ما فعلته الموصل أو الرقة، إلا أنها كذبت حساباتهم وتخطيطاتهم. باغتوا الجميع، نعم. واغتالوا مواطنين وأمنيين وعسكريين، نعم. ولكن أرض الفرسان لا تستقبل المجرمين ولا المرتزقة، ولا يمكن للإرهابيين أن يجدوا حاضنة لهم بين أهلها. مشهد أول: الناس يجرون وراء إرهابي مسلح. فأي قوة تجعلهم لا يخشون رشاشا يمسكه مجنون ؟ مشهد ثان: مع لعلعة الرصاص تتجاوب في أطراف المدينة زغاريد نسائها ممن استشهد أبناؤهن أو إخوتهن. فأي قوة جبارة تتوفر عليها حتى يتحول النواح والعويل إلى زغاريد؟ أي درس تعطيه هذي المدينة للإرهابيين وللسياسيين وللإعلاميين معا؟

مدينة بينت أنها -حتى لو كانت خالية من القوات المسلحة- قادرة على التصدي للإرهابيين، إذ وجدوا منها ما لم يسبق لهم أن وجدوه في بلدان أخرى، إذ صدتهم ووجدوا فيها سدا منيعا أمامهم، وأفسدت عليهم مخططاتهم فإذا بها أوهام. مدينة تدلل بكل كبرياء بأنها درع للوطن، رغم تجريدها من تاريخها في وجه الاستعمار، ورغم التهميش المستمر الذي عانته، ورغم الشتائم التي وجهت إليها -وما بالعهد من قدم- من سياسيين وإعلاميين مضللين. مدينة جديرة بأن تكون في صدارة المدن الأسطورية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات