تتمثل التهم الموجهة إلى شفيق جراية في "الاعتداء على أمن الدولة الخارجي والخيانة والمشاركة في ذلك ووضع النفس تحت تصرف جيش أجنبي زمن السلم"، وهذه التهم لا تستدعي توضيحا بأنه لا علاقة لها بالفساد المالي أو البنكي أو الرشوة أو الارتشاء أو التهرب من الضرائب. أكثر من ذلك فإنها تتضمن رسالة طمأنة إلى الفاسدين. ولا أقل من طمأنتهم بعد أن تعسر أو حتى استحال تمرير قانون المصالحة معهم. ولو لم يكن ذلك كذلك لما صعُب توجيه تهم بالفساد إلى شفيق جراية. وبالتالي فالضجة كلها لا علاقة لها بالحرب على الفساد. وإنما تدخل ضمن تصفيات وصراعات أخرى.
نتذكر شفيق جراية عندما تقدم منذ أيام قليلة بعرض "سلام شجعان" إلى غريمه المباشر، كمال لطيف، قائلا له: "شد كلابك، نشد كلابي". وهي إشارة مكتنزة في معانيها، فلأول مرة تُكشف على الملأ قُوى الصراع الحقيقي على الساحة، وأن كل ما نراه هو مجرد صراع بين كلاب هذا وكلاب ذاك، في البلاتوهات والأستوديوهات حيث يجتمع إعلاميون ومحللون وسياسيون... وغيرهم من المتبارزين في بقية الملاعب والميادين.
وأن ينعتهم شفيق جراية بالكلاب فهو يُهينهم بقدر ما يعبر عن شعوره أو غروره بأنه وصل إلى مرحلة التكافؤ أو "توازن الرعب" مع كمال لطيف ذي التاريخ المعروف. إلا أن في دعوته اعترافا في نفس الوقت بحاجته إلى "السلم"، وهنا نقطة ضعف تكتيكية، دفعت غريمه إلى الإجهاز عليه، أو هذا ما تم في اعتقادي.
تصريح الجراية يكشف أيضا درجة التفسخ التي بلغتها الدولة، حتى أصبحت المافيات تلعب على المكشوف وتحكم بأمرها، في غياب النائحات اللائي بالمناسبة لسن سوى كلاب هذا أو ذاك.
وبعد، أي معنى لكلام رئيس الحكومة يوم 24 الجاري:"يا الفساد يا الدولة يا الفساد يا تونس"، في حين كان عرفه وصاحب الفضل عليه، الباجي قايد السبسي، قد قدم مشروع قانون للمصالحة مع الفاسدين؟ وأي معنى لذاك الكلام في حين أن التهم الموجهة لشفيق جراية لا تتعلق بالفساد، حتى ولو لم تتضمن تهمة الفساد تمويله للحملة الانتخابية لحزب نداء تونس في انتخابات أكتوبر 2014؟
وأما بقية الموقوفين فلسنا ندري التهم الموجهة إليهم إلى حد الآن، كما لا ندري هل كانوا من المساهمين في نفس الحملة، ولكن الأكيد أن شأنهم أقل من شأن شفيق جراية وإلا لما وقع الإسراع بإحالته على التحقيق في تهم لا تتعلق بالفساد، في حين يتكلمون عاليا عن مقاومة الفساد…
الخطير في كل المسألة، هو أن الحرب على الفساد أفرغت من محتواها، وتحولت إلى مجرد حرب بين المافيات. والأخطر من ذلك هو أن تصل مافيا إلى تسخير أجهزة الدولة في معركتها ضد مافيا أخرى. وهو ما يؤدي إلى تحصين الفساد ومن ثمة تشريع باب الاستبداد.