قال الباجي قايد السبسي ما أراد أن يقول. إلا الأهم من ذلك هو أنه كشف -دون أن يقصد- عن أشياء أهم مما قاله، وأهمها في تقديري هو الاعتراف بالفشل الذريع للمنظومة القديمة. وإلا فماذا يعني اللجوء إلى المؤسسة العسكرية إن لم يكن التعبير عن أن كل الإمكانيات التي استخدمت حتى اليوم قد استنفدت أغراضها وبينت أنها قد فشلت تماما في إعادة الوضع إلى ما قبل 17 ديسمبر.
نعم فشل الإعلام والإدارة ورجال المال والأعمال وغيرها مما استخدمته المنظومة سرا وعلانية منذ ست سنوات، ونفدت كما هو واضح شحنة الفوز في انتخابات أكتوبر 2014، ولم يبق الآن إلا المؤسسة العسكرية التي تحظى بكل التقدير للدور الذي قامت به خلال الثورة وضد الإرهاب. لم يبق خيار آخر.
هنا لا بد أن نلاحظ أن صاحب الفكرة لا يعرف -كما هو واضح- المؤسسة العسكرية ولا التاريخ التونسي القريب ولا حتى البعيد. ذلك أن من لديه الحد الأدنى من الثقافة السياسية والثقافة العامة، لا يفوته أن الجيش التونسي يختلف عن غيره من الجيوش العربية، في أنه لا يتدخل في السياسة ولا يغريه الحكم، وهذا لا يعود الفضل فيه إلى بورقيبة في عهد الاستقلال وإنما هو تقليد ضارب في القدم.
إلا أن أخطر ما في التفكير في اللجوء إلى المؤسسة العسكرية وتوجيهها إلى مناطق الفسفاط والنفط والغاز (بالجنوب)، هو أنه يذكّر بتقليد فرنسي في إدارة الجنوب التونسي من قبل الضباط الفرنسيين تحت تسمية "التراب العسكري". وكان الكُتّاب الفرنسيون يؤصلون ذلك بالعودة إلى التاريخ الروماني، إلا أن الاستعمار لا يمكن أن يكون قدوة ولا مصدر إيحاء أو حتى مجرد تذكير بممارساته.
الأمر أسهل من ذلك بكثير، إذا فهمنا أن الاحتجاجات هدفها هو تحقيق الاندماج الوطني الذي حال دونه الاستعمار البغيض، ثم لم تستطع الدولة الوطنية أن تتجاوز مخلفاته، ولا معنى للثورة أو للديمقراطية أو للدستور أو للسيادة الوطنية إذا بقيت معلقة لا أثر لها على الواقع المعيش.