منذ صغري كنت أعتبره مثلي الأعلى، ولم ينزل أبدا عن تلك المكانة. صحيح أنه لم يكن صاحب جاه ولا مال ولا منصب، ولم يكن من أولئك الذين لهم حظوة أو مكانة في المجتمع ولا في البلدة، ولا ما يؤهلهم لكي يكونوا نماذج أو قدوات، فقط كان عاملا فلاحيا في الواحات. خلال عشرات السنين من حياته كان يفلح الأرض، يزرع، يغرس، يحصد، يسقي، يتسلق النخل، يؤبر، يقصّ الجريد أو العراجين، يسيّج البساتين... كان يقوم بكل تلك الأعمال بإتقان وإخلاص كبيرين. تشهد له على ذلك الأسيجة التي أقامها من جريد النخل، كيف متّنها لتصمد وتسرّ الناظرين.
في آخر مرة زرته، حدثني كما كان يحدثني دائما عن الكدّ والجدّ وبذل الجهد الأقصى، وكأنه كان يذكرني بدرس لم يسبق له أن علّمنيه في صغري، أو خشية أن أكون قد نسيتُه في خضم الحياة، ذكّرني بأنه عندما كان يعزق الأرض كان يحرص على أن يضرب بمسحاته أكثر من مرة في نفس المكان حتى يستأصل ما قد يكون بقي من جذور النباتات الضارة، وحتى تتنفس التربة لتستقبل البذور الجديدة. ويضيف بأنه لو لم يفعل ذلك فإن الأرض هي التي ستحاسبه أمام الله.
وقد كنت شاهدا على ذلك عندما كنت أذهب إليه وأنا صغير لأحمل إليه الغداء أو الماء. وأستدل عليه بآهات يصدرها بتواتر مع صوت المسحاة وهي تشق الأرض. كان العمل بالنسبة له ضربا من العبادة.
حدثني في المرة الأخيرة عن الرزق الحلال الذي لم يجبره اليُتم ولا الفقر أو الجوع والعراء إلى ابتغاء غيره. قال لي بأنه لم يطعمنا حبة عنب أو مشمش أو تمرة واحدة من حرام، والحرام عنده أن يحصل على شيء بدون وجه حق، حتى ولو كان تافها. ورغم أنه قضى عمره يتنقل للعمل من بستان إلى آخر، من طرف الواحة إلى طرفها الآخر، فإنه لم يمد يده أبدا ليأكل من غلال أي منها في غفلة عن مالكيها أو في غيابهم أو بدون إذن منهم. والأكيد أنهم ما كانوا ليمنعوه من ذلك، ولكنه لم يفعل، كان عفيفا.
في المرة الأخيرة أيضا، حدثني بكل فخر عن فضل جدّه الذي عاش في بداية العهد الاستعماري عندما غطّى على أهالي القرية الذين لم يقدروا على دفع المعاليم الموظفة على "قتل" النخيل لاستخراج اللاقمي، ومن أجل ذلك باع جميع أملاكه لتسديد الخطية التي سلطت عليه عوضا عنهم أو فداء لهم، ثم بعد أن استوفى عقوبته بالسجن بتونس، لم يستقر بالقرية إذ لم يعد له ما يملك فيها، وانتقل إلى بلاد الجريد حيث ارتضى بأن يتحول إلى عامل فلاحي.
أما هو فأحلى ما ورثه عن جده تلك القصة، والعمل الفلاحي في بساتين الآخرين، وخرج مثله من قريته لعدم وجود مدرسة بها، وكان حريصا على تعليم ابنه الوحيد. ذلك العامل الفلاحي تعب وضحى والدليل أن ابنه الآن أستاذ جامعي.