"كيلو النضال".. الحقيقة والكرامة..

Photo

لقد صمدت هيئة الحقيقة والكرامة، رغم كل ما استهدفها من هجومات ومؤامرات وتخطيط، وهو ما يعتبر انتصارا لكل الضحايا أنفسهم الذي استهدفهم الاستبداد في وجودهم وكرامتهم وإنسانيتهم مثلما استهدفتهم حملاته ترذيلا لهم وسخرية منهم وتهميشا لوجودهم. وهل ترانا ننسى تلك المعلقة التي رفعتها إحدى الشقراوات ذات جويلية 2012: "بقداش (بكم) الكيلو نضال؟" وهل يمكن أن ننسى انسحاب هذا العضو أو ذاك من الهيئة في محاولة لتحطيمها قبل الشروع في أعمالها؟ وما كان لها غير الصمود وأمرها يهم أجيالا متعاقبة من التونسيين طيلة ما يزيد عن نصف قرن، من يوسفيين ويساريين ونقابيين وقوميين وإسلاميين وحقوقيين كلهم تركوا بصماتهم على دفاتر السجن الوطني.

نعم كل من تلك الجماعات ناضلت من أجل أفكارها ورؤاها ومعتقداتها وحتى أوهامها، وقد يختلف المرء معها في ذلك كثيرا أو قليلا، ولكن نضالاتها في الأخير لا يمكن أن تخرج عن دفتر النضال من أجل الحرية ومن أجل الكرامة ومن أجل الحياة، وساهموا جميعا في نقض البناء الذي أجهز عليه التونسيون، إذ لا يمكن أن نجحد دورهم في تعرية النظام البائد والكشف عن عوراته بل أنهم يشكلون الدليل المادي النابض على طبيعته الاستبدادية، بل لا يمكن التدليل على استبداده دون استحضار مآسيهم.

وفي مواجهتهم وقفت الشقراء صاحبة اللافتة لتتساءل عن ثمن الكيلو نضال. نعم، لم تكن وحدها، وإنما وراءها السيستام برمته، بما فيه من فساد واستبداد وتشويه، ولذلك غاب من وجهها الحياء والحد الأخلاقي الأدنى، شقراء ربما لم يسبق لها أن أوقفها حتى شرطي مرور، والأكيد أنه لا يوجد من بين أهاليها من افترش الاسفلت في زنزانات الداخلية أو أصابه الجرب أو القمل أو البق في السجون "المدنية" للدولة الوطنية الحديثة.

والأكيد أنها لم تر والدها أو أخاها من وراء قضبان وأسلاك مزدوجة، أو لم تعرف يتيما مات والده تحت التعذيب، وحرم هو من الدراسة أو من العلاج أو تحاشاه أصحاب الصدقات بسبب والده. ولم تعرف عذراء افتضت بكارتها في مركز البوليس أو عروسا فقدت بعلها قبل أن تخبو حناءُ عرسها في يديها. ولم تعرف أما أو أبا مات كمدا وحسرة ولم يودّعه من مات بسبب فقدانهم. ألف ألف صورة من المآسي التي عرفتها عشرات الآلاف من العائلات التونسية في كل حي وزقاق وفي كل قرية ودشرة ودوار. وقفت الشقراء لتلعنهم جميعا.

هم لم يكونوا أقل ذكاء منها عندما انتُزِعُوا من مقاعد الدراسة في المعهد أو الجامعة، أو عندما فقدوا أعمالهم ووظائفهم ولم يعودوا إليها، ولم يكن أسهل لهم من أن يفعلوا مثلما فعلت عندما دست رأسها في الرغام، أو -ربما- مثلما ناضل معارفها ممن التحقوا بلجان الأحياء أو لجان التفكير التجمعية أو لجان اليقظة. وكانت اللافتة التي رفعتها تخفي وجوهم. غدا ستنكشف حقيقة أمرهم إنصافا للذين ناضلوا ودفعوا من كرامتهم ومن دمائهم ومستقبل أبنائهم ومن حريتهم. ولكل ذلك فالهيئة تسجل اسمها في التاريخ وفي ذاكرة الوطن المجيد.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات