الفوّالات.. كادحات

Photo

لا أتذكر أني قرأت عنهن في جريدة أو كتاب، أو وجدت ذكرا لهن في وثيقة أرشيفية أو خاصة، ولا تكلمت عنهن "مناضلات" الاتحاد النسائي ولا الناطقون باسم الكادحين والمرأة العاملة، رغم أنهنّ كن في قلب الكدح تماما. إنهم الفوالات أو بائعات الفول المدمس.

لا أدري مدى امتداد هذه الظاهرة جغرافيا، إلا أني متأكد أن تناول الفول المدمس أصيلٌ في بلدة قبلي بالجنوب التونسي، وقد لا يقل حضورا في ذاكرتي عن التمر نفسه. ليس لأن الفول كان يقايض بالتمر، وإنما لأن الفول كان يصحبنا في صباحاتنا مُدمّسا وفي أعراسنا مَشْويا، يسمى قرماشي. وكانت الفوالات علامات يُستدل بها في أنحاء البلدة، ومن أشهرهن رقية الفوالة، والدبّية، وعيشة بنت شنبة، وفنّة، ومريم بنت الصويعية، وأخريات كثيرات قبلهن وبعدهن، بعضهن أرامل وكلهن لم يخضعن للعوز وقلة ذات اليد، فانصرفن إلى الكدح من أجل الرزق الحلال، وإعالة أبنائهن من عرق الجبين، فكن كادحات حقيقيات.

تستيقظ الواحدة منهن مع الفجر لإعداد الفول المدمس ثم تقضي بقية الصباح أو حتى بقية اليوم لبيعه. منهن من تفتح منزلها منذ الصباح الباكر بدون أن يكون الحرفاء مطالبين بالطرق على الباب حتى وإن كانوا كبارا؛ ومنهن من تنتصب بقِدْرها أمام المدرسة فيشتري منها الصغار ما ينقص من جوعهم؛ ومنهن من تتجول في الطرقات لتعرض فولها الساخن وهي تصيح: "فول، فول"، وقد تزيد: "حامي سخون بالكمّون"، في إشارة إلى أن الفول يُتناول مع شيء من الكمّون، حتى لا يتسبب في نشوء الغازات.

الأكيد أنهن لم يكُنّ يعرفن أنهن كنّ يوزّعن البهجة والسعادة حولهن: أولا على أبنائهن وفيهم من واصلوا دراستهم بفضل كدح أمهاتهم. وثانيا على حرفائهن أيضا، إذ قد قرأت منذ سنوات أن الفول المدمس يحتوي على مادة "السيراتونين" التي تسبّب السعادة. بمعنى أن هؤلاء الفوالات كُنّ يوزعن علينا شحنات من السعادة كل صباح، فنستكمل بها بقية اليوم.

في ذلك الزمن السعيد كان فطور الصباح يتكون من الخبز وربما الحليب الطازج وقد يحضر البيض وشاي للكبار وفول للجميع، قبل أن تُعمم عادات الأكل التي أدخلتها المبيتات المدرسية والمخيمات الكشفية حيث تقدم قهوة الصباح والزبدة والمعجون وما إلى ذلك.

ورغم تبدل الزمان، لم تختف الفوالات في قبلي، ولم تتراجع مكانتهن في النفوس، ولا انمحت ذكراهن الجميلة، أتذكرهن كلما رأيت بائعا للفول المدمس في شوارع العاصمة، ويحضرن وتحضر السعادة كلما اجتمعت العائلة على صحن منه يوم أحد.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات