كل الأماكن في تونس أقرب إلينا من بناما. أكيد، ولسنا بالتالي في حاجة ماسة إلى وثائق بناما حتى نكتشف الفساد الذي ينخر بلادنا حتى العظم، لسنا في حاجة أكيدة إلى وثائق إضافية كي نعرف قائمات الذين قصدوا جنة التهرب الضريبي، ولا سائر الفاسدين. فهم لا يكادون يغيبون عن أنظارنا وأسماعنا، كل شيء يدل عليهم، وهم يتحركون في وضح النهار. أصواتهم هي الأكثر سماعا من جميع الأصوات الأخرى، أعوانهم موجودون بكثافة في الإعلام وفي البرلمان وفي الأحزاب وفي النقابات، فما الجديد الذي يمكن أن تضيفه وثائق بناما؟
بل السؤال لماذا يذهبون إلى جنة بعيدة للتهرب الضريبي، وهم في جنة مثلها وأحسن؟ فإن كان السؤال في غير محله فهل بمقدور البنك المركزي الذي هدد محافظه بفتح تحقيق في من وردت أسماؤهم في وثائق الجنة البعيدة، أن يكشف لنا قائمات المتهربين من دفع الضرائب في تونس، وقبل ذلك قائمات المستفيدين من الخصخصة في العهد النوفمبري؟ بل هل يمكنه مثلا أن يكشف حجم الأموال التي دخلت وتدخل البلاد لتوزع على الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وعلى الإعلام وعلى الإرهابيين حتى؟ وما معنى أن لا يكشف البنك ذلك حتى اليوم، إن لم يكن معناه أن الفساد هو الذي يتحكم في كل شيء؟
كذلك، القضاء الذي صدر له الإذن من وزارة العدل للتحقيق في ما ورد في وثائق بناما، ما الذي فعله قبل ذلك في ملفات الفساد التي كشفت عنها تقارير صادرة عن هيئات رسمية، مثل اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة التي صدر تقريرها منذ أكتوبر 2011؟ ما الذي فعله القضاء في عمليات الفساد التي تضمنها الكتاب الأسود؟ وهل اهتم بالبحث في الأرشيفات التي تتوفر في الإدارات التونسية حتى يتجه -كما تم الإعلان عنه- إلى أرشيفات لا يملك عليها حولا ولا قوة؟ وإذ لم يقع الكشف خلال السنوات الخمس الماضية عن الفاسدين في الإعلام وفي الأحزاب وفي النقابات وفي الإدارات وفي الأمن وفي السياسة، فهل نرجو أن يقع ذلك بسبب وثائق بناما أو من خلالها؟ بل ألا يدل ذلك على أن الفساد هو الذي يحدد لنا ما يجب أن نعرف ويمنع عنا ما لا يريد أن نعرف.
تلك الملاحظات لا تدل أبدا على أن لا فائدة في وثائق بناما، يكفي أنها كشفت أن الفاسدين في تونس مختلفون عن الفاسدين في شتى أصقاع الدنيا، لهم صفاقة ووقاحة لا حدود لهما. فبقدر ما أحدثته تلك الوثائق من زلازل في بلدان شتى، لم يتأثروا في تونس بما ورد فيها حتى أنهم تقدموا بكل جرأة لتكذيب ما ورد فيها بخصوصهم. وهي على أية حال لا تكشف إلا جزءا يسيرا منهم ومن فسادهم. لأن الفساد الأعظم والأبرز هنا في تونس وليس هناك في بناما.