الكشف عن شبكة تجسّس ليس من الأخبار العادية، وهو بكل تأكيد يستحق التوقف عنده مليّا وطويلا، تعليقا على ما نشرته جريدة "الشروق" واستقراء لردود الأفعال إعلاميا وسياسيا، ويبدو لي من خلال كل ذلك:
-أن ما نشرته جريدة "الشروق" لا يرقى إلى أن يكون عملا استقصائيا ولا هو يستهدف الإثارة المجرّدة، اعتبارا إلى أن الصحفية التي وضعت اسمها أسفله ليست إلا واسطة في الأمر لا أكثر ولا أقل. وليس في هذا أية غرابة، إذ طالما لعبت نفس الجريدة قبل الثورة وبعدها دور المنصة لأطراف معينة حين تريد الوصول إلى الرأي العام.
-أن ما نُشر قد يخدم طرفا له نفوذ، على حساب طرف آخر له نفوذ، بل قد يكون وراءه لوبي أو حتى عصابة تريد تسجيل نقاط على حساب أخرى، والرهان هو التمركز في خياشيم الدولة والتمكن من عصبها والتحكم في مصيرها.
ومع ذلك ورغم ذلك، فإن المهمّ إلى حد الآن أن نسجّل:
-أن الذين كشفوا الشبكة، وتمكنوا من التعرف على عناصرها وأعمالها، قاموا بالواجب وواجبهم الوطني وضميرهم المهني، وهذا مدعاة للتفاؤل والأمل، بقدر ما يؤشر بوضوح على أننا -رغم كل شيء- نتقدم في الطريق السوي.
-أن الرأي العام عرف البعض من الحقائق حول أعمال الاستخبارات التي تعمل في بلادنا منذ سنوات، ومن بين ما قامت به غرس منظومات معلوماتية تضمن لها التصنت على مواقع سيادية من بينها قصر قرطاج نفسه. كما عرف الرأي العام أسماء بعض المخبرين الموجودين بمواقع مختلفة، وفيهم الخبير الاقتصادي والمستشار الوزاري أو الرئاسي والمدير العام ورئيس الحزب والإداري الكبير، كما عرف أثمانهم البخسة التي لا تتجاوز إيباد(ipad) أو حذاء رياضيا أو سفرة على الدرجة الثانية أو بضعة دولارات ومنحة دراسية… لكل ثمنه البخس، ولا يغرنا بالتالي طنينهم عن الوطن والوطنية، طالما أنهم يبيعونه، مهما كان الثمن.
ربما الأهم فيما نشرته "الشروق" ما يستشف تحديدا من بين السطور، حيث يظهر تحالف استخباراتي تشاركت فيه أجهزة عدة، الموساد، الاستخبارات الفرنسية، سي أي إي. وكأن بلادنا غدت ساحة للتدريب أو التربص فضلا عن التنافس بين الاستخبارات الكبرى. ويمكن أن نتذكر هنا المخابرات الروسية التي جنّدت عملاء لها ينقّبون في دفاتر الحالة المدنية.
نعم روائح الاستخبارات فاحت منذ سنوات عدة، وقد أشار إليها أكثر من واحد من أهل السياسة إلا أنها كانت تراوغهم. فعندما تكلم عنها الأستاذ عبد الرؤوف العيادي، اعتبرتْه مجنونا؛ وعندما تكلم الأستاذ خالد عواينية عن تورط الاستخبارات الفرنسية في عمليتي اغتيال بلعيد والبراهمي، لم يعلّق على كلامه أحد؛ وعندما قالت حماس إن جهاز الموساد متورط في اغتيال الشهيد محمد الزواري في تونس، لم يأبه لذلك أحد. هكذا كان، والخشية اليوم أن يستمر الأمر كما لو أن شيئا لم يكتشف.