لو كانت بأيدهم لما تأخر تشكيل "حكومة الوحدة الوطنية"، ساعة واحدة، فما بالك بما يقرب من شهر كامل. ولو كانت بأيديهم لقلدوا ما كان يفعله "المجاهد الأكبر" أيام الاثنين عندما يعلن عن تسمية وزراء جدد وعزل وزراء لم يحفظ أسماءهم بعد، ولا يستشار هؤلاء ولا أولئك وإنما يبلغهم الخبر مثل غيرهم في نشرة أخبار الواحدة بعد الظهر. ولو كانت بأيديهم لأحالوا رئيس الحكومة مثلا على أبواق الإعلام لسلخه بتهمة السرقة ولأمروا بهرسلة عائلته، ولقطعوا عنه الهاتف استعدادا لإلقاء القبض عليه، مثلما فعلوا مع محمد مزالي. ولكن ما باليد حيلة هذه المرة. أمرهم محير فعلا، فماذا يقصدون؟
لو كانت عندهم خبرة في السياسة مثلا أو في الحكم، ما رموا بأنفسهم في هذا الحضيض، أكاد أقول إلى التهلكة، ولما تكلم الباجي قايد السبسي عن "حكومة وحدة وطنية"، وهو يدري أن لا حيلة له في فرضها، حتى إن كان ينام على فراش "المجاهد الأكبر"، ويتنفس الهواء الذي كان يتنفسه "صانع التغيير"، ويطلّ على مقام سميّه وجاره في السكنى "ريس الأبحار".
ربما صدق هو نفسه والسذج وضعاف التفكير والتدبير والنفوس والداعمون الرئيسيون في الحملة الانتخابية، ما كان يروجه "المحللون" والإعلانيون، من دعاية له وللمحيطين به باعتبارهم عناوين الخبرة والحكمة والحنكة والكفاءة وفصل الخطاب. وها نحن نكتشف معهم أن لا شيء من ذلك حاصل. وأكبر دليل على ذلك مبادرته التي فاجأته هو مثلما فاجأت غيره عن "حكومة الوحدة الوطنية"، وكشفت أنه لم يقرأ صلوحياته الدستورية.
لقد نسوا بالتأكيد أن ما عندهم لا يتجاوز ما اكتسبوه في زمن الحزب الواحد والزعيم الواحد الأحد، من خبرات واسعة، ربما، في فرض الرأي الواحد والتصفيق والصفاقة، ولمن بلغ منهم شأوا متقدما خبرة في التحكم باستعمال القمع أو البروبغندا، وتتوزع على آخرين خبرات في احتقار الناس وفي النيل من الكرامات وفي التعذيب أو التغطية عليه، وفي كبت الأصوات والتجسس على الخلق، وفي السرقات ونهب المال العام، وكثرة الحديث عن الوطنية وعن "الصدق في القول"... وتلك خبرات صلحت ذات زمان.
ولكنها لا تصلح لكل الأزمنة، ولا يمكنها أن تعيد لهم سطوة ولت إلى الأبد، ولا تمكنهم من التحكم في الرقاب مثلما كانوا يفعلون، وإن أوهمتهم أفهامهم أنهم يستطيعون بواسطتها تجاوز ما مرت به البلاد من "فتنة كادت لا تبقي ولا تذر"، أو أن ما سلبهم الشارع ذات شتاء، يعود إليهم ذات خريف بفضل الصندوق، فذاك يثبت أنهم ما جعلوا لهذا الزمن.
وها أنهم يكتشفون أن لا خبرة لديهم تصلح ولا هم يحزنون. والثابت أنهم انكشفوا تماما أمام أنفسهم وأمام داعميهم، بمعنى أنهم أفلسوا قبل أوان الحساب والاستحقاقات القادمة. وأما إن كان منتهى مقصدهم أن يهيئوا الأمر لمن يأتي بعدهم من متآمرين أو عملاء أو سفاحين أو جواسيس، فذاك سقوط مدوي، وهم ساقطون لا محالة.