ربما يسخر الكثيرون إذا تكلم غيرهم عن الثورة، إذ يضعونها بين ظفرين أو هي عندهم تعبير عن أزمة أو مجرد انتفاضة أو حتى مؤامرة، وفيهم من يحنّ إلى العهد البورقيبي السعيد أو يتأسف على العهد النوفمبري مقارنين بين الوضع خلاله وبعده، في أسعار السلع أو انتشار البطالة. في المقابل هناك آخرون يسلّمون بانتصار المنظومة القديمة أو الثورة المضادة أو عودة السيستام، ويستدلّون على ذلك بعودة الممارسات القديمة والرموز القديمة وحتى التهديدات القديمة. هؤلاء وأولئك يغفلون أو لم ينتبهوا إلى أن الثورة -حتى وإن لم يعترفوا بحدوثها- قد خلقت حقائق أخرى، حقائقها التي هي جزء من القدر.
ومنها أن كل مواليد القرن الحادي والعشرين من التونسيين، من كان عمرهم أقل من 10 سنوات في 14 جانفي، وعددهم اليوم يناهز ثلث العدد الجملي للسكان، لم يخضعوا بدرجة أو بأخرى طيلة ست سنوات إلى ما خضع له الجيل السابق من تدجين وتزييف وغسل للأدمغة وإذلال وسلب إرادة. بمعنى أن ثلث التونسيين اليوم وهم شباب، لم يتربوا على الخوف من العمدة ومن رئيس الشعبة ومن قوادة الحي والقرية ولم يفروا من الرافل، ولم يعرفوا أجواء الحزب الواحد والرأي الواحد، والطّرْق اليومي عن "صانع التغيير" و"التحول المبارك"، ولم يتبرعوا غصبا عنهم أو نفاقا منهم لصندوق 26-26.
صحيح هناك رواسب لتلك "التربية" على الخضوع وروائح من تلك الأجواء العفنة، ولكن الأكيد أن تأثيرها لم يعد هو نفسه، تقلّص ظلّها. واليوم حتى وإن عادت المنظومة القديمة، لنفترض جدلا ذلك، فلن تجد لها جنودا ولا جمهورا ولا تصفيقا ولا هتافات من مواليد القرن الحادي والعشرين. انتهى. هذه حقائق تتدعم كلما أشرق يوم جديد.
وأما الذين مازلنا نراهم أمامنا على كل ركح، يسدّون الأبواب على الشباب، ليذكّرونا بالقرن المنصرم، بكل ما فيه من ممارسات وحتى سوءات، فهم جزء لا يتجزأ من ذلك الماضي الآفل، ولا ننتظر منهم غير ذلك إذ قد تكوّنوا هناك، وهم بالتالي أعجز من أن يتجاوزوا مستوياتهم، يستوي في ذلك من تربّى في نادي الحزب الحاكم وتكوّن على أنغام "من توجيهات الرئيس" أو في خلايا الأحزاب السرية وحفظ متونها وشروحها وكراساتها. جميعهم قد يختلفون في الألوان والتفاصيل التافهة، ولكنهم في الجوهر هم الشيء نفسه. وعلى أية حال فهم ليسوا القدر، سيمرّون زرافات زرافات، والأكيد أنهم يتناقصون كلما استدارت عقارب الساعة، وتتقلص صفوفهم وأعدادهم وحظوظهم، ولن يسعفهم الوقت باستعادة ما مضى ولا استنساخ شباب على شاكلتهم. وإن حاولوا فسيكونون غيرهم. بقدر ما لا يمكن للماضي أن يعود.
يكفي دليلا على ذلك صفوفهم الممزقة، ومعاركهم الوهمية المستوردة من الزمن القديم، وخطاباتهم البالية التي لا تقنعهم أنفسهم. بل حتى لو تجمعوا وتجمعوا فلن يسعفهم الزمان للعودة إلى ما كانوا عليه في القرن الماضي. طويت الصفحة إلى الأبد. إنها من حقائق السنوات الست، الحقائق التي صنعتها الثورة.