ومن عساه يكون القاضي الفاضل غير مختار اليحياوي (1952-2015)، فباستثنائه من بين مئات القضاة لم يفكر آخر في فعل ما فعل. أن يقف بالطريقة التي وقف بها في وجه الدكتاتورية في أيام عزها وعنفها وجبورتها. وقف بكل جرأة وشجاعة كما لو أنه كان وحيدا، في حين صمت الآخرون قسرا أو يأسا أو خوفا أو طمعا أو تماهيا مع الدكتاتورية أو انتظارا للحظات مواتية. وأما هو فلم يهتم بما شغل الآخرين ولا بالإغراءات التي يتيحها منصبه كقاض، ولم يأبه بما يمكن أن ينجر عن موقفه من نتائج على عائلته أو عليه شخصيا، من قبل نظام مستبد يعاقب بالشبهة، ويسجن ويعذب ويطارد كل نفس حر أو معارض. فما بالك يمن يكتب مباشرة إلى رأس النظام ليتحدث عن "الأوضاع المريعة" للقضاء، مدافعا عن "القضاة المقهورين" والذين "يعانون من حصار رهيب" منددا بالانتهازيين المتملقين والوشاية والقمع والترهيب، بما "لم يبق معه مجال للصمت أمام صرخة الضمير"، داعيا المخلوع إلى "رفع الوصاية عن القضاء وعلى كل مؤسسات الدولة على نحو يسمح بإتاحة ممارسة الحريات الدستورية للجميع لصياغة التغيير الحقيقي الذي يتطلع إليه شعبنا وتقتضيه مصلحة الوطن"
الأكيد أن هذه الرسالة التي وجهها القاضي الفاضل مختار اليحياوي إلى المخلوع بتاريخ 6 جويلية 2001، ستبقى وثيقة لا يمكن القفز عليها كلما وقع التعرض لتاريخ القضاء، بل ولا يمكن كتابة تاريخ بلادنا دون التعرض إليها. وفوق ذلك فهي ستبقى رسالة إلى القضاة الشرفاء ومصدر إلهام لمعاني الحرية والاستقلالية والصمود. وفيما يلي نصها
"جناب السيد رئيس الجمهورية التونسية رئيس المجلس الأعلى للقضاء.
أتوجه إليكم بهذه الرسالة لأعبر لكم عن سخطي ورفضي للأوضاع المريعة التى آل إليها القضاء التونسي والتي أدت إلى تجريد السلطة القضائية والقضاة من سلطاتهم الدستورية وتحول دونهم وتحمل مسؤوليتهم كمؤسسة جمهورية مستقلة يجب أن تكفل لهم المساهمة في تحديد مستقبل وطنهم والاضطلاع الكامل بدورهم فى حماية الحقوق والحريات.
إن القضاة مقهورون في كل مكان على التصريح بأحكام منزلة لا يمكن أن ينال منها أي وجه من الطعون ولا تعكس القانون إلا كما أريد له أن يقرأ.
إن القضاة التونسيين يعانون من حصار رهيب لا يبقي أي مجال للعمل المنصف ويعاملون باستعلاء في ظروف من الريبة والتوجس والوشاية تطولهم وسائل القمع والترهيب بما يسلب إرادتهم ويحول دون التعبير عن حقيقة قناعتهم, كما تداس كرامتهم يوميا ويقدمون للرأي العام بشكل مرعب وبشع من الحيف والبطش حتى كاد يتحول مجرد الانتماء إلى القضاء معرة أمام كل الشرفاء والمظلومين.
إن القضاء التونسي قد فرضت عليه الوصاية بسيطرة فئة من الانتهازيين المتملقين الذين نجحوا في بناء قضاء مواز خارج عن الشرعية بكل المعايير. استولوا على المجلس الأعلى للقضاء وعلى أغلب المراكز الحساسة في مختلف المحاكم لا يعرفون معنى التجرد والحياد وتحولت الاستقلالية إلى استقالة وتبرم لدى كل القضاة الحقيقيين المحيدين والممنوعين من الاضطلاع بدورهم وتحمل مسؤوليتهم وتفعيل كفاءاتهم في خدمة القضاء والوطن.
إن هذه الفئات التى تتاجر بالولاء لتكريس الخضوع والتبعية والمعادية لمنطق التغيير والتطور الخلاق عن طريق الالتباس بنظام الحكم القائم والتي تسعى إلى إشاعة التباس النظام بالدولة بالاستيلاء على كل مؤسساتها إنما تسعى إلى الفتنة وتقود إلى المواجهة وتشكل التهديد الحقيقي للنظام والأمن والاستقرار.
إن مباشرتنا اليومية التي أتاحت لنا الاطلاع على حقيقة أوضاع القضاء تجعلنا نتجاوز واجب التحفظ في ظروف سدت فيها كل قنوات الحوار المتوازن بما لم يبق معه مجال للصمت أمام صرخة الضمير حتى وان تحولت سجوننا لأحسن مكان للشعور بالكرامة والحرية وراحة الضمير.
إن مسؤولياتكم الدستورية تفرض عليكم اتخاذ القرارات اللازمة لرفع الوصاية عن القضاء وعلى كل مؤسسات الدولة على نحو يسمح بإتاحة ممارسة الحريات الدستورية للجميع لصياغة التغيير الحقيقي الذي يتطلع إليه شعبنا وتقتضيه مصلحة الوطن".
رحمك الله أيها القاضي الفاضل. الدكتاتورية,