البيّوعة..

Photo

في العربية نقول باع يبيع بيعا، والبائع هو التاجر، وأما البَيّوع وتجمع على بيّوعة فهو من الدارجة التونسية، ولا يمكن اعتبار البيّوع اسم فاعل، لأنه من حيث الاشتغال لا يمكن أن يكون إلا مفعولا فيه أو مفعولا به.

تاريخيا، ظهرت هذه العبارة في عهد الاستعمار الفرنسي لتطلق على أولئك الذين باعوا ضمائرهم وتجردوا من الوطنية، ليخدموا الاستعمار. ويقال لهم أيضا القوّادة، ومعنى القوّاد كما وردت في معجم المعاني "سِمْسار الفاحِشة أو البِغاء، مُنَظِّمُ شُؤُونِ الْمَرْأَةِ البَغِيِّ وَالْحَرِيصُ عَلَى تَصْرِيفِ أُمُورِهَا"، وهو ما يعني أن البيوع والقواد كلاهما وضيع وضاعة "مهنته". أحدهما لارتباطها بأقدم مهنة في التاريخ البشري، والآخر لارتباطها بالخيانة الوطنية.

في لغة السياسة والإعلام، البيّوعة يعرفون بالعملاء، ومفردها عميل، والعميل حسب معجم المعاني هو "جاسوس يعمل لصالح دولة أجنبيَّة". بطبيعة الحال هذا يتمّ بمقابل مادي ومن هنا كانت عبارة البيّوعة أي أنهم يبيعون للدول الأجنبية شيئا كأن يكون أخبارا أو مواقف أو تأييدا، وفيهم من يصل درجة الاستعداد لفدائها بالروح والدم.

في العقود القليلة الماضية استعملت هذه العبارة من قبل بعض التيارات السياسية لسبّ بعضها البعض، من ذلك أن بعض التيارات اليسارية كانت تنعت أنصار الحزب الشيوعي التونسي بعملاء موسكو، كترجمة لارتباط هذا الحزب بالاتحاد السوفياتي آنذاك. وينعت آخرون الماويين بعملاء بيكين. وذلك يعكس ارتباط هذا التيار أو ذاك بدول أجنبية، شرقا وغربا.

ومن تلك الدول ذكرنا فرنسا التي لعملائها تاريخ طويل يعود إلى ما قبل الاحتلال نفسه، وكان لهم دورهم خلال الاحتلال، ومازال هذا الدور متواصلا. كما نجد حسب الفترات ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وقد تعاطف معها العديد من التونسيين نكاية في فرنسا الاستعمارية، وبطبيعة الحال الاتحاد السوفياتي الذي تزعزعت صفوف عملائه مع اندثاره. كما نجد بريطانيا حتى قبل الاحتلال، وأمريكا والصين وإيران وحتى الكيان الصهيوني ومن أهم الدول العربية سوريا والعراق ومصر والسعودية وليبيا، بل أن بعض الدول التي كان لها معجبوها عوض أن نقول عملاءها كانت عبارة عن دويلات صغيرة جدا وحتى متخلفة، مثل ألبانيا التي استطاعت إذاعتها "هنا تيرانا" أن تؤثر على تيارات سياسية وإيديولوجية بأكملها.

كان ذلك بالأمس، أما اليوم فيكفي أن تتجول على الشبكات الاجتماعية لتقرأ ما يكتبه البيّوعة من مواقف و"تحاليل" وما يقومون به من بروبغندا لفائدة مشغليهم، تحت عناوين شتى، فهم يكتبون كما لو أنهم يكشفون عمن يعطيهم الدولار واليورو. أكثر من ذلك فمن البيّوعة من تجمعوا في جمعيات ومراكز بحوث ونوادي وحتى أحزاب تصدر نشريات ومواقف.

ذلك أن ظاهرة البيوعة رافقت تاريخ تونس المعاصر، وهي تتجاوز ما عبر عنه ابن خلدون باقتداء المغلوب بالغالب، لأن الكثير من الدول التي وجد لها بيوعة في بلادنا في فترة أو في أخرى، لم تكن علاقتها بنا مبنية على المغالبة، وإنما تكشف هذه الظاهرة عدم قناعة كامنة بكون تونس وطنا بذاته، فترى من أبنائها من يبحث عن نموذجه خارج الحدود.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات