خط طولي يشقّ البلاد، يصرّ الجميع كما هو واضح على المحافظة عليه. لا يهمّهم إن كان قد اختطّه أو توارثه البايات أو عمل به الاستعمار أو واصل السير على ضوئه بورقيبة وبن علي. خطّ طوليّ لا يهمّ إن كان مستقيما أو متعرجا أو كان اتجاهه من الشمال إلى الجنوب أو من الشرق إلى الغرب أو بينهما، هو الخطّ الفاصل بين ما قبل وما بعد البلايك، أو ما داخل السور (intra-muros) وما خارج السور (extra-muros)، أو بين البلدية (بكسر الباء) والآفاقيين.
المهم أن الواقف على أحد جانبيه يتوهّم بإمكانية الغلبة أو حتى تسديد الضربة القاضية لمن يقف على الجانب الآخر. المسألة صراع وصراع عنيف حتى.
أكثر من ذلك لا يجد الواقف على هذا الجانب غضاضة في أن يستعين ضد الواقف على الجانب الآخر، بكل شياطين الدنيا حتى يخضعه ويذله ويلحق به العار لو استطاع إلى ذلك سبيلا، دون أن يحدوه شعور بأن البناء قد يتداعى بسبب ذلك في الفرصة الأولى.
إن المعارك التي تتمّ بهذه الطريقة لا تنتهي أبدا وإنما تتحيّن الفرصة ليستعير أوارها من جديد. ولا يمكن أن يهنأ للمنتصرين بال، حتى وإن تبجّحوا بانتصارهم أو عبّروا عن كل مشاعر النخوة والخيلاء، وكلما عبروا عن ذلك، كلما ازداد المنهزمون إصرارا على الثأر، ورغم أنهم لا يعبرون عادة عن مشاعرهم، فإنهم يكتسبون قوة في الكظم وكتم الصوت، بمعنى أنهم لا يستسلمون حتى وإن رفعوا أيديهم، وإنما يتصرفون في انتظار المعركة القادمة وهذا طبيعي.
وهذا يوضّح في آخر المطاف حدود الخطّ الطولي بين هؤلاء وأولئك. دون أن يشعر واحد منهم بأن ذلك هو بالفعل ما يحول دون الاندماج الوطني، ودون اكتمال الشعور بالانتماء الوطني، ودون تبلور مشروع جامع ينخرط فيه الجميع عن قناعة ويشتغلون عليه في حماس من أجل تونس التي يتكلّمون عنها، كأنما هي واحدة، وهي في ممارساتهم وفي خطابهم أكثر من واحدة. تونس الخضراء وتونس الجرداء.
نعم ليس من السهل إزاحة إرث القرون المتراكم، ولا أحكام الجغرافيا وحتمياتها، وأما إذا لم نصل إلى الوعي به أولا وبضرورة تجاوزه ثانيا، والشروع في تجاوزه ثالثا، والإصرار على ذلك رابعا، فالمرجح أنه سيستمر وربما حتى بأكثر مضاء.
والمسألة لا ترتبط بجيل واحد، وإنما تشارك فيها أجيال عدة، إلا أن الخطوة الأولى مازالت حتى الآن بعيدة عن الناظرين. ولذلك فالخط الطولي -مع الأسف- هو الذي يشق المشهدـ فلا غرابة في أن يستمر الوضع على ما كان عليه منذ قرون.