بن علي نفسه لم يكن يحلم بحكم تونس لثلاثة وعشرين عاما، كان أول شعاراته بعد أن أمر بلف الزعيم الأبدي بورقيبة أثناء نومه في ملحفة ورفعه بعنف من الفراش الرئاسي في قصر قرطاج إلى منزل مهجور تحت أقامة جبرية هو "لا رئاسة مدى الحياة"، وكل الحكام العرب قالوا ذلك عندما تسلموا السلطة إلا الجنرال عبد الرحمان سوار الذهب الذي انقلب على حاكم السودان الأزلي الجنرال البائس جعفر النميري لأمره بقمع الاحتجاجات على خضوعه لقرارات صندوق النقد الدولي في رفع الدعم عن المواد الأساسية في أفريل 1985، أول حاكم عربي يفي بوعده في بتنظيم انتخابات حرة وتسليم السلطة إلى المدنيين بعد عام واحد إلى الحكومة المنتخبة بقيادة الصادق المهدي رغم ضعفها وعاد إلى ثكناته ليتقاعد فورا ويتفرغ للعمل الخيري دون أية رغبة في السلطة أو الشهرة حتى وفاته،
إنه حالة عربية شاذة لا يمكن فهمها إلا أنها الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، فعندما "نبت" الجنرال بن علي في السلطة لم يكن أقصى أحلامه أن يقضي مدتين انتخابيتين بطلب منه، وبقدر ما كان جنرالا عنيفا ودمويا فقد كان "جبانا" سياسيا ولم تكن له أية طموحات أو سياسة أو مشاريع سلطة، لكن بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية التي نظمها في 1989 بعد الميثاق الوطني المزيف، بدا له أن الشعب التونسي ليس مخيفا بالقدر الذي كان يتصور وأن المثقفين وقادة السياسة أضعف مما كان يتوقع،
قال أحد أفضل جنرالاته قبل نهاية مدة رئاسته الأولى: "هذا الشعب فيه خمس سنوات غباء يمكن لأي شخص استغلالها ليصبح حاكما"، لكن الجنرال بن علي كان قد أدمن السلطة ولم يعد قادرا على تخيل وجوده خارجها، لذلك، لم تكن خمس سنوات من الغباء، بل 23 عاما من التسلط الظالم والحكم بالقوى الغاشمة والسجون والتعذيب والمنافي مع شبكات وشاية غير مسبوقة، ينجح في كل انتخاباتها بنسب لا تقل عن 90 بالمئة من الشعب الناخب السعيد،
وجد نفسه محاطا بأنصار السلطة الأبدية الحقيقية من جنرالات الشرطة والجيش والمال والأعمال والصفقات والمهربين والمحتالين، أدخلوه إلى حلقوم السلطة التي ليست فيها رجعة حتى لم يعد يتخيل نفسه خارجها إلا ميتا، حتى إن كان ثمن تلك السلطة مئات القتلى، آلاف؟ عشرات الآلاف؟ لا يهم، إذ ليس هناك خط عودة في هذا النمط من السلطة العربية كما ليس هناك حدود لعدد القتلى أو مستويات التعذيب التي قد يقترفها أنصار سلطته مقابل إعفائهم من أية محاسبة ومنحهم صلاحيات خاصة، السلطة مقابل الحصانة والارتشاء والنهب من المال العام واحتكارات التوريد والرخص والتجارة،
في النصف الثاني من سنوات التسعين، قيل لنا إن الأمريكيين اشتغلوا على بديل هادئ للجنرال بن علي، اقترحوا عليه خروجا سلميا من السلطة واللجوء تحت حمايتهم إلى بقية عمره إلى صديقه وصديقهم رئيس الأرجنتين كارلوس منعم، اغرته الفكرة ووافق على شراء ضيعة هناك بثلاثة آلاف هكتار، حتى أنه زارها وأبدى إعجابه بها،
عندما عاد إلى تونس، اكتشف أنه في قلب الحلقوم، كان ثمن كل ما تشتريه في تونس مقسما بين الكلفة الأصلية وكلفة وساطة أفراد عائلته أو عائلة أصهاره، يأخذون نسبة على كل مليم يتحرك في البلاد، مورطون بلا أمل في الأمان إلا بالسلطة الغاشمة، إذا سقط بن علي فسيسقطون معه، لذلك يجب دفعه إلى النهاية، إيهامه بالسلطة الكاملة أيا كان ثمنها مع الاستعداد لنهايته بنقل ما أمكن من ممتلكاتهم خارج الوطن وإدخالها في متاهات الهندسة المالية الدولية حتى يفقد أثرها، فلوس تحير فيها النار، لا يمكن إنفاقها في جيل أو اثنين، وهكذا كان،
إنه السيناريو النموذجي للحاكم العربي، يعرف كيف يأتي بانقلاب بأهداف إنسانية وطنية، أيا كانت نواياه، ثم يحيط به أولاد الحلال فيصبح ملكا عضوضا، لا قيمة له إلا في عسف البوليسية وقدرتهم على انتهاك آخر حدود الإنسانية، الإيقاف على الشبهة "لا تقلق، دقائق معنا في المركز لمجرد التثبت" تنتهي بعشرة أعوام سجنا، النزول بعد منتصف الليل من السطح على بيوت الآمنين، تمزيق الحشايا بحثا عن أفكار وأرواق، ركل الأمهات على بطونهن، جر الشيوخ من أقدامهم إلى السجون للتعذيب لأعوام لا يعدها أحد، سجان يأتي وسجان يتقاعد ويمضي ولا أحد يعلم موعد العفو، المنافي والذكريات الحزينة وتحول باريس ولندن وبرلين إلى أفضل عاصمة عربية،
لقد آن الأوان لكي يتصدى علماء الاجتماع والنفس لدراسة حالة الحكم العربي، سواء كان الحاكم جنرالا مزيفا بلا حروب أو زعيم مليشيا، المشكل ليس فيه هو، بل في مرض الغباء السياسي الاجتماعي الذي يجعل ملايين الأشخاص يصفقون لجلادهم، بعد أن عاش العالم كل ما عاش: من انهيار جدار برلين إلى سقوط العراق إلى أن أصبح الكيان الصهيوني دولة صديقة لأغلب الدول العربية إلى أن أصبحت المقاومة، أي شكل من أشكال المقاومة عملا إرهابيا،
أي شيء سيخرج من العالم العربي بعد كل هذا الألم؟