من فوق ربوة الملاحظ الساخر أمنح لنفسي الحق في الضحك من المشهد. في ضحكي الكثير من الشماتة ولكني أريد أن أخفى تفاؤلي حتى يظل العامهون في غيهم ويظل من يمد لهم فيه يحسب نتائج انتصاره الذي يتوهم. فقد كشف اقتحام قوات نظامية مقر الحكومة تحت يافطة مطلبية مادية أمورا كثيرة أراها من زاويتي ايجابية على المدى البعيد وعلى خلاف من يعتقد أن حكومة الصيد واهية ومرتعشة فإني أرى أن صبرها على الاقتحام وعلى شعار ديقاج (ارحل) الذي رفع في وجه رئيس الحكومة هو الرد الملائم في هذه المرحلة. وسأبين ذلك في ما يلي:
من هم المقتحمون؟
بعد الثورة وانفجار الحريات الحزبية والنقابية سارع الأمنيون بمختلف الأسلاك إلى تكوين نقاباتهم القطاعية (حسب السلك) وأفلح المجلس التأسيسي في الحد من قدرة هذه النقابات بتحريم الإضراب على الأسلاك شبه العسكرية في الدستور. بما حصر أساليبها الاحتجاجية في التظاهر السلمي إذا تعذرت الاتفاقات حول المطالب المحتملة. وقد تبين أن أغلب الأسلاك (الحرس الوطني وقوات التدخل) فقد عرفت حقها ووقفت عنده إلا نقابة واحدة للأمنيين من غير السلكين المذكورين).وهي التي اقتحمت قصر الحكومة في استعراض شبه عسكري. وهنا يجدر التذكير بعد السؤال عن طبيعة منتسبي هذا السلك.
يتذكر التونسيون في زمن الدكتاتور أن الانتداب في سلك الأمنيين كان يتم بطريقة تجعل الأمني جاهلا أو محدود القدرات الذهنية أو إمَّعة يسهل قياده. فقد كان هناك تواطأ جماعي على عملية الالتحاق. الفاشلون دراسيا كان يسجلون بمعاهد تعليم ثانوي خاصة تسمى تعسفا بالمدارس الحرة. وكان الحضور فيها تمثيلية منظمة يقبض فيها صاحب المدرسة مالا نظير تسليم بطاقات أعداد تؤهل المنتسب للحصول على بطاقة أعداد للسنة السابعة ثانوي (قبل الباكالوريا).والبطاقة تخول لحاملها المشاركة في مناظرة وهمية تنتهي به حاملا للزي وللسلاح. في الجوهر كانت هذه العملية إحدى عمليات الفساد المنظم علنا باتفاق الجميع. وكان ذلك يخدم في العمق نظام القمع الذي لا يحتاج إلى ضابط أمن واع ورشيد بل إلى عصى غليظة غير واعية بمهامها ولا تطرح أسئلة عن طبيعة وظيفتها.ومع التنسيب الضروري بخصوص القيادات التي كان تحظى بتكوين أكاديمي بعد الإجازة في مدارس الشرطة فإن أعوان التنفيذ كانوا في أغلبهم فاشلين دراسيا ومنحدرين من أوساط فقيرة ويعتبرون مجرد حمل الزي مفخرة يضحون من أجله بالكثير بما في ذلك ضرب أهاليهم. الثورة لم تصف هذا الوضع بل سايرته ولم يتسنَّ لأية حكومة أن تعيد بناء وعي هؤلاء بمهامهم رغم الحديث عن الأمن الجمهوري التي تبدو فكرة مثالية لمن درب على الضرب والقمع فقط.واعتقد أن الذين اقتحموا القصرين كانوا في أغلبهم من هؤلاء المنتسبين الذي سهل توجيههم لمهام احتجاجية في ظاهرها ولكنها موجهة طبقا لأجندة سياسية غير جمهورية.
الأمنيون لعبة في يد معادية للدولة.
تأسيس النقابات الأمنية حق للآمنين أراد به البعض من السياسيين باطلا سياسيا. فقد كانت سرعة تشكيل النقابات ملفتة ثم تبين أنها تتحرك خارج القانون منذ حكومة الجبالي والعريض (2012- 2013).
فقد خرجت عن حيادها في اعتصام الرحيل والتزمت شق المعارضة وكان معروفا من يحرك الاعتصام ومن يموله وماذا يريد. وقد بلغ الأمر حد قيادة تمرد ضد الرؤساء الثلاثة في احتفال رسمي ولولا تنبه سلك الحرس الوطني وقيادته لنفّذ انقلاب أمني وانهار المسار الانتقالي برمته وكنا نعرف من المستفيد وقتها من انقلاب يكسر مسار التأسيس.
ذلك المستفيد مازال لم يفقد الأمل من توظيف السلك لصالح إحداث فراغ سياسي يسقط المؤسسات المنتخبة. وما جرى يوم الخميس 25 فيفري من اقتحام مقر سيادي يأتي في نفس السياق.ودليلنا أن الخاسرين من الانتخابات قد خرجوا يوم الجمعة ينصفون الأمنيين ولا يرون في ما فعلوا غضاضة ثم يرفعون الصوت بفشل الحكومة وضعفها بما يعني فتح الباب على تغييرها ولأنهم يعرفون قبل غيرهم أن فشلهم القديم في الانتخابات مازال يطاردهم فإن تغيير الحكومة يمر عندهم خارج إعادة الانتخابات أي بما اقترحه السيد نجيب الشّابي منذ أيام على رئيس الدولة أي حكومة إنقاذ وطني تحت قيادته تجعله ينهى مساره السياسي رئيس حكومة ولا يهم إن لم يصل بالانتخاب.
يصير يقينا عندنا أن قراءة حركة الأمنيين غير القانونية وغير الدستورية موجهة –رغم الغلاف المطلبي- إلى وضع أجندة سياسية قيد التنفيذ. تمنح الفاشلين في الانتخابات مكانة ودورا عجزوا دونه بالانتخاب ويعرفون أن نهايتهم السياسية وشيكة إن لم يعودا إلى الصورة بطريقة غير ديمقراطية.
حركة اليأس و بذور الأمل
سبب التفاؤل في المشهد أن الاقتحام يحمل جينات فنائه.لأسباب كثيرة
منها كما أسفلت عدم الاستجابة له داخل بقية الأسلاك وهي الأثقل وزنا والأكثر وعيا والأعلى تدريبا. فقد ثمنت نقاباتها الزيادات التي حصلت عليها واعتبرت ذلك متوافقا مع قدرات البلد في الظرف الراهن وكانت من الوعي بحث ربطت تحركاتها بالحالة الأمنية العامة لبلد مهدد فعلا بالإرهاب. بما يعنيه ذلك من ضرورة الحفاظ على الأمن الداخلي أولا. لقد سحب وعيها السياسي والأمني بخطورة المرحلة الشرعية من تحت الأمنيين المتمردين وحشرهم في زاوية ضيقة وحشر من يحركهم في زاوية اليأس. وهو الأمر المبشر بان وعيا جديدا يتشكل داخل الأسلاك القادرة فعلا على التمرد فحفظت كيان الدولة الآن وهنا. ويجب أن يكون هذا الوعي سندا لحكومة ليست من القوة بحيث تحدث اختراقات جبارة في معالجة المشاكل الاجتماعية المتراكمة ولكنها تمتلك شرعية البقاء في الحد الأدنى الذي لو انهار لدخلت البلاد نفق الاضطراب المظلم وفتح باب تسرب الإرهاب المتربص من كل المنافذ.
التقدم بخطى وئيدة
هذا المقال ليس تمجيدا لحكومة الحبيب الصيد التي لم تبدع بل تحركت تحت ثقل المحاصصة الحزبية وتتعثر في كل ملف حساس ولكن خيار إسقاطها دون انتخابات ليس الخيار الأصوب بل لعله الأخطر. فالساحة السياسية تزداد هشاشة بما انكشف من عجز نخب المعارضة على إعادة تشكيل مشهد معارض قادر على إنتاج بديل حقيقي يمكن أن يعود به الناس إلى انتخابات حاسمة. مازال الحزبان الفائزان في انتخابات 2014 (النداء والنهضة) يتصدران استطلاعات الرأي وأي انتخابات سابقة لأوانها ستعيد إنتاج نفس المشهد. والعيب ليس فيهما وإن فشلا في تحقيق وعودهما بل تقديري أن العيب في المعارضات الهشة التي تسعى من عجزها إلى الانقلاب بتوظيف النقابات غير المنضبة للقانون.
واعتقد أن الرد الأنسب على تمرد هذه النقابة هي تركها تستفرغ جهدها في احتجاج يباعد بينها وبين الأسلاك المنضبة ويقطع بينها وبين مؤسسات الدولة خاصة المؤسسة العسكرية التي لا تزال تمارس ضبط النفس وتحمي الدولة والحكومة ويكفي أن نتخيل خطورة الرد الذي طالب به بعض الملاحظين من ضرورة تحريك الجيش لردع النقابة لأنه يفتح فعلا شرخا خطيرا يجعل الأسلاك المسلحة في حالة تربص ببضعها البعض وهو لعمري أمر خطير جدا ومنذر بهلاك الجميع. لأن أولى نتائجه هو التغافل عن حراسة حدود الدولة التي تراقب الوضع في الشقيقة ليبيا وليس لديها رفاه خوض حروب داخلية.وربما كان المطلوب من تمرد النقابة هو جر الجيش إلى معركة داخلية تؤدي بما تبقي قائما بعد من مؤسسات.
تعديل وظيفي طبيعي
يعلمنا درس الوظيفية أن النسق يعدل نفسه ذاتيا إذا شهد اضطرابا مخلا بوظائفه الحيوية واعتبر أن تمرد النقابة هو خلل وظيفي في نسق يتحرك ظاهريا ببطء ولكن التمرد (خلل ظاهر) ومساندته السياسية (خلل المعارضة البنيوي) كشفت أسباب الخلل الوظيفي (الظاهر والباطن) وحاصرها وفتح باب علاجها وتجاوزها. واعتقد أن العلاج الحقيقي هو المرور فعلا وبسرعة إلى علاج الخلل الاجتماعي الذي يمزق البلد ليس بين الأسلاك الأمنية بل بين الفئات الاجتماعية المفقرة والمقصية وبين طبقة رجال الأعمال التي تفلح في النجاة من المحاسبة وكشف فسادها (الخلل البنيوي الحقيقي)كلما انشغلت الحكومة بعلاج الخلل العارض (التمرد).
ستكون حكومة الصيد قوية لو غامرت في هذا الاتجاه. وهو منجاتها من الهلاك السياسي ومنجاة البلد من الانهيار الشامل. وسيكون من مصلحة الحزبين الكبيرين أن يدفعاها إلى هذا الاتجاه وليس إلى تخفيض أسعار الشاي في إطار المحاصصة الحزبية.
في أثناء ذلك سنواصل السخرية من الجميع فقد كانت خمس سنوات كافية لكشف خواء الطبقة السياسية التونسية التي لم تؤمن يوما بالدولة. ومن جهلها وفقر برامجها وسوء طوية قياداتها التاريخية وضعت أملها في عون أمن لم يحصل على الباكالوريا ليفتح لها باب قصور الحكم. فمثل سيدي كمثل جواده.لا يسبق إلى النزال ولا يحرث الأرض.