انطلقت الاحتفالات في تونس بالذكرى الثامنة للثورة. التي حدثت في الفترة ما بين 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 و 14يناير/كانون الثاني 2011. وعاد الموقفان المتضادان من الثورة للظهور. الموقف المنحاز للثورة والذي يعدد مكاسبها، والموقف الساخر من الثورة والمتباكي على زمن الدكتاتورية.
الموقف المتحمس يعدد المكاسب بينما ينعى الموقف الثاني زمن بن علي ويقدّم صورة سوداء للمستقبل وينذر الناس بهلاك مبين. أصوات كثيرة من الموقفين تكتفي بالصراع اللفظي وقلة قليلة تذهب وراء تقييم للمكاسب وتبحث عن أسباب تأخر الثورة في تحقيق كل ما صبا إليه الشباب الثائر ذات شتاء ساخن أدّى إلى هروب الرئيس وانهيار منظومة الحكم. في هذه المقالة نسعى لتقييم نقطة متعلقة بأداء الطبقة السياسية التي لم تُظهر رفضها للثورة ولكنها لم تؤمن بقدرتها على تحقيق مكاسب عامة تنسي الناس زمن ما قبل الثورة.
غياب القيادة ذات البرنامج
واجهت الثورة تصلُّب النظام في بدايتها ولكنها انتهت بقطف رأسه، وكانت نهاية سريعة ومربكة رغم موجة الفرح التي صاحبتها. وقد بدأ الارتباك منذ الأسبوع الأول للثورة إذ وجد الثوار وزير بن علي الهارب يصير رئيس حكومة، ورئيس برلمانه يصير رئيس الدولة. كانت هناك حالة ذهول يمكن الآن تفسيرها وقد تجلَّت الآراء والمواقف والمواقع لبقية الطيف السياسي الذي كان يقود معارضة بن علي والذي كان يفترض أن يستلم السلطة مع الثوار البسطاء في غالبهم.
لقد تبين أن الشارع ثار ولكن لم تكن له خطة كاملة لثورة بما سمح لكثيرين بالتسلل إلى صفوف الثوار وتشتيتها واستغلال ذلك للتصدر لقيادهم، وكان يمكن لمن تصدر أن يقترح وأن يقبل، ولكن لأن هؤلاء حملوا جراثيم عجزهم القديم الذي منعهم من الثورة حتى أنجزها غيرهم فإنهم عملوا من خلال ذلك على فرض أجنداتهم التي ليست أجندة الثورة ولا كانت على بال الثوار وهم يخرجون عراة الصدور لرصاص بن علي.
لقد لازمت هذه المعضلة الثورة حتى وصلت إلى انتخابات المجلس التأسيسي دون أن تفلح في إفراز قيادة من صلب الثوار. هنا تكشَّف أمر خطير. سوق الناس إلى الانتخابات كان حيلة لم يدركها الثوار بل انخرطوا فيها عن حسن نية. قبل الإجهاز على المنظومة التي التفَّت عليهم بيسر لم يتوقعه أحد. لقد كانت هناك مؤشرات على ذلك هي التكالب على لجنة بن عاشور (أو اللجنة التي أنشأها بن علي قبل هروبه) فصارت لجنة تحقيق أهداف الثورة، حيث اشتغلت النخبة بآلياتها على قرصنة كل مطالب الثورة وحولتها إلى نصوص انتخابية أفرزت في البداية وجوهاً جديدة، أهمها قيادة حزب النهضة (إسلام سياسي)، ولكن بالمداومة والدربة السياسية التي افتقدها الثوار تسرَّبت المنظومة عائدة فحكمت، ولكن الثورة لم تنتهِ بعد رغم غياب القيادة.
الخلافات السياسية التي عاقت تقدم الثورة
كان يمكن أن تنسجم النخبة مع مطالب الثورة، فالسائد أن الثورة ينجزها العامة بينما تتولى النخبة تجسيد المطالب في مؤسسات بحكم الخبرة والدربة، لكن العكس هو الذي حصل لقد كان الثوار موحدين فجاءت النخبة وقسمتهم شيعاً ومذاهب، فانتهت الثورة إلى حالة من العناء لا تزال تواجهه كل يوم.
لقد حملت النخبة صراعاتها القديمة من زمن الأيديولوجيا ورمت بها الثورة، فإذا الناس الذين تحمسوا للتغيير يقفون على مشاهد من صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل. صراع بين العلمانيين وبين الإسلاميين لا يزال يُلقي بكل ثقله على الراهن وعلى المستقبل بعد أن شوَّش كل مسار الثورة التي تحتفل بسنواتها الثماني. وكلما بدأ التقييم يُطل على هذه الحفرة السيئة تصيح النخبة "من بدأ الصراع؟"، وهي حيلة جر النقد إلى داخل الصراع ومنع تقييم دور النخبة.
يوجد خلاف قديم موروث ومصطنع وقد تمتعت النخب بالخوض فيه، لأنه كان يريحها من الصراع المباشر مع النظام الحاكم (بورقيبة وبن علي)، وقياساً على ذلك كل الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج.
هذه الورقة لا تهرب من الإجابة، لم يكن الإسلاميون حتى تاريخ الثورة إلا ضحايا، فقد عاشوا بين منفيٍّ وسجين، وقد حرَّرتهم الثورة وأعلنوا الرغبة في المشاركة على قواعد الديمقراطية، وقد مكَّنهم الناس من الحكم عبر صندوق الانتخاب الشفاف لكن النخبة العلمانية بشقوقها الليبرالية واليسارية جرَّتهم إلى وضعية إما بقاؤهم أو خراب الدولة، فاختاروا الدولة، فانهارت إدارتهم وتمكنت المنظومة من الحكم ثانية جارَّة معها الإسلاميين الخائفين على وجودهم، فضاعت مطالب الثورة بين علماني يفضِّل استعادة حكم بن علي وإسلامي خائف ومرعوب وهارب أمام المنظومة.
لقد جسد اعتصام الرحيل في صيف 2013 عمق الخلاف بين الشقَّين، وانتهى بانتصار الشق العلماني، لكنه لم يتقدم منذئذ في اتجاه تحقيق أهداف الثورة، رغم الزعم بأن الإسلاميين معادون لبرنامج الثورة، ونحن الآن في نهاية مرحلة نتجت عن ذلك الاعتصام. ولكن الأمل في الوصول إلى نهاية هذا الصراع الدموي لا يزال ضعيفاً. فهو يفسد على الناس الاستعداد لانتخابات 2019 على أساس برامج وبدائل وخطة حكم تتبنى ما تأجل من أهداف الثورة الاجتماعية.
وجب القول أيضاً ودون مواربة بأن الإسلاميين فشلوا في إدارة الشؤون الأمنية بكفاءة. فحدثت الاغتيالات السياسية التي دمرت المسار تدميراً. ولكن جهود مخالفيهم الكثيرة لا تزال تصر على أن هناك مسؤولية جزائية تقع على الإسلاميين، في حين وجب الإقرار بأن الاغتيالات كانت ستقع ولو كان غير الإسلاميين في الحكم، فقد كان المسار -رغم التعثر في 2012 و 2013- متجهاً إلى تصفية المنظومة، وأن أي طرف (إسلامي أو غير إسلامي) كان يعتزم فعل ذلك كان سيُطعن من الخلف لكي لا تتقدم الثورة. (للتذكير، فإن اغتيال الشهيد بلعيد حدث يوم كان المجلس التأسيسي سيناقش قانون العزل السياسي لقيادة نظام بن علي، فلما سقط الشهيد سقط القانون). ويمكن أن نعدِّد الأمثلة على أنه كلما اقتربت الثورة من المساس بالمنظومة تحرَّك الإرهاب ووضع من يحكم في وضعية الاختيار الصعب بين استمرار الدولة بالحد الأدنى أو تصفية المنظومة. في وضعية الاستمرار بالحد الأدنى كانت المنظومة تربح دائماً ويتشتت جهد كل من يريد التقدم بالثورة نحو أهدافها. وكان شق واسع من النخبة العلمانية يعرف ذلك ويستمر في استدامة المعركة مع الإسلاميين حتى الساعة.
طريق الثورة لا يزال طويلاً، لكنها تتقدم.
هذا الصراع حقيقي ولا يزال مؤثراً والثورة أيضاً حقيقة ولا تزال حية تنبض في القلوب وتحقق المكسب تلو المكسب، بل إنها تصفِّي بهدوء -هو من طبيعتها- كل خصومها ولكن بدم بارد. ولعل فشل مظاهرة السترات الحمراء التي استعدت للاحتفال بذكرى الثورة بتحريض من المنظومة وتحت ضربات السوشيال ميديا، كشف أن المنظومة لم تعد متماسكة بل تتراجع وتفقد قدرتها على ضبط شارع تَحرَّر نهائياً من التخويف بانهيار الدولة.
مكسب الحرية هو المكسب الذي اتفق كل أنصار الثورة على دعمه وصيانته. وهو ليس مكسباً هيناً ولكنه ليس كل ما طالبت به الثورة. ما زال البلد يعاني اقتصادياً ومؤشراته في هبوط، ولكن تفضيل الخبز على الحرية لم يعد خياراً شعبياً تونسياً. الجميع يلهج بذكر الحرية ويسخر من أدعيائها ويحولهم إلى رسوم كاريكاتورية ويصبر.
كم يلزم من الصبر؟ الكثير فالثورة لم تتسلح لتصفِّي أعداءها منذ البداية. ولذلك تضطر إلى التعامل معهم بحيل كثيرة، ولعل أهم هذه الحيل الدفع إلى الصندوق الانتخابي الذي أفلح رغم تسرُّب مكونات من المنظومة في إسقاط الكثير منها، ولا يزال أمام الصندوق واجب فرز قيادة للدولة تنتمي إلى خطاب الثورة وبرنامجها.
يقن التونسيون أن الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين ليس معركتهم، ولذلك سيصوتون ضد من يعمل على استدامته للتعيُّش منه. وقد استشعر الإسلاميون ذلك قبل غيرهم فتجنبوه في البلديات وربحوا الكثير. في حين يصر شق كبير من العلمانيين على الاستثمار فيه وهو ما سيبعدهم عن الحكم في المرحلة القادمة.
الصندوق الانتخابي الشفاف الذي يعتمد اختيار الشعب هو الأفق المتاح والوسيلة الأكثر نجاعة، ففي كل دورة انتخابية سقط من المنظومة جانب مهم. واحتمال تصفيتها بالصندوق ليس احتمالاً ضعيفاً.
سيواجهنا البعض بالسؤال "هل يوسف الشاهد من قوى الثورة؟" وسيزيد البعض "هل النهضة من قوى الثورة؟"، وسنجيب بأن ليس لمن كان يزعم معارضة بن علي ثم عمل على استعادة منظومته في اعتصام الرحيل حق في الحكم أكثر من يوسف الشاهد، كما أن موزعي بطاقات الانتماء إلى قوى الثورة لم يعملوا على تحقيق مكاسبها أكثر من النهضة.
والمنظومة في كل الحالات تعرف عبيدها كما تعرف أعداءها وتحاربهم بواسطة قوى تحتكر الانتماء إلى الثورة، وتخوِّنها مع المنظومة بواسطة نقابات انتهى بها الأمر إلى تكريم ألد أعدائها في مهد الثورة. لقد رفعت سنوات الثورة الثماني الغشاوة عن عيون كثيرة ولم يعد خطاب النقابات الأمنية ومخبروها من اليسار يحظون بأية مصداقية، وهذا مكسب عظيم. لقد حققت الثورة الحرية وحمتها، وبالحرية ستكون تونس مختلفة وتتقدم نحو وضع" القُطر المثال".