معركة قطر الحاسمة

Photo

كتبت جملة فحواها أن ما يجري في قطر وحولها معركة وأنها معركة ستحسم صراعًا طويلاً بين الإسلام السياسي الإخواني واليسار العربي بشقوقه القومية واليسارية لو - وقد أكدت على لو التي تفيد المستحيل - انتصرت قطر في معركة الحصار.

وفهمت الجملة على أنها دعوة إلى الحسم المسلح أو العنيف بين التيارين اللذين عطلا بصراعهما الربيع العربي، أو ما أراه ربيعًا ويراه كثيرون وخاصة اليسار العربي ربيعًا عبريًا، وقد تلقيت عتابًا حادًا هو أقرب إلى اللوم والإدانة من صديق يساري أجله إجلالاً كبيرًا وأكن لآرائه الكثير من التقدير لأنه في تقديري من الأشخاص القلائل الذين يرجحون الحوار العقلاني على الحسم الأيديولوجي المفتوح على العنف، ولذلك أحاول هنا الرد بنفس اللطف الذي عوتبت به وإذا كانت هناك ضرورة لإصدار إدانات أخلاقية أو سياسية فهي لمن وقف دون مواربة مع الانقلابات العسكرية الدموية ومع التشبيح الدموي .

عودة إلى أسس المعركة

قلت ولا أزال أظن أن معركة قطر أو ما سأسميه معركة حصار قطر هي معركة ضمن حرب أو فصل ضمن حرب طويلة بين الإسلام السياسي ممثلاً خاصة في الإخوان المسلمين ومن نشأ بين أحضانهم واستقل عنهم في التفاصيل التنفيذية (النهضة التونسية والعدالة والتنمية المغربي) واليسار العربي بشقوقه اليسارية الماركسية والقومية العربية البعثية منها والناصرية، وأعدت أول فصول هذه المعركة إلى الصراع الناصري الإخواني (منذ حادثة المنصة).

هذا الصراع شق صفوف النخبة السياسية والفكرية طيلة النصف الثاني من القرن العشرين وعطل كل احتمالات التوحد ضد الأنظمة القمعية التي عملت دومًا على تأجيجه لتستفيد من فرقة النخب وتكبل تطورها، وقد تجدد في الربيع العربي (وأنا مصر على التوصيف والتسمية) وأفشل حتى الآن هذه الثورة السلمية التي انفجرت وأوشكت أن تغير المنطقة ولكنها لا تزال تعاني بفعل هذا الصراع نفسه أكثر مما تعاني من التدخلات الخارجية عليها أو بفعل قوة الأنظمة القمعية التي انكشف خواؤها وفقرها في القيادة وتعرت عورتها أمام شعوبها.

أهم الفصول/المعارك قبل معركة قطر

في تونس ومصر وسوريا خيضت ثلاث معارك بين النخب اليسارية والإسلامية، انتهت كلها بعودة الأنظمة القمعية، وكان بالإمكان ألا يحصل ذلك لولا الصراع بل التقاتل المدمر بين النخب المذكورة.

في تونس سار الإسلاميون العائدون من المنافي والخارجون من السجون وراء فكرة التأسيس التي أطلقتها في اعتصامات القصبة فصائل يسارية تصدت للقيادة حينها وانتهت بانتخابات مجلس تأسيسي، لكن الانتخابات الأولى الشفافة والنزيهة إلى حد كبير أفرزت مجلسًا تحت هيمنة الإسلاميين (النهضة) وأظهرت حجم اليسار الحقيقي في الشارع (لا في الإدارة) فانقلب اليسار على المسار السياسي الديمقراطي وعمل كل ما أمكنه لإسقاط الإسلاميين الذين شكلوا الحكومة، حتى انتهت التحركات الممولة بأموال رجالات ابن علي ونفوذهم في الإدارة، وهذا موثق.

حدث في أثناء ذلك اغتيالان سياسيان في قيادات اليسار اتهم فيهما اليسار الإسلاميين وإن لم يقيموا عليهم الحجة القانونية ولكنهما استثمرا سياسيًا ضدهم فعجل ذلك سقوطهم وانتهى كل ذلك بقطيعة جذرية بين التيارين عاد من خلالها النظام القديم بكل رجالاته ليحكم البلد، ورغم نتائج هذا الحكم الكارثي الآن على المسار السياسي وعلى القدرات الاقتصادية للبلد إلا أن احتمالات الحوار المنقذ أو المنجي من هذا الصراع منعدمة بما يمنح النظام القديم عمرًا أطول وإمكانيات أوسع لمزيد من التمكن من رقبة البلد، ومنها إعدام قدرة التيارين على التطور عبر المشاركة في الحكم ومعرفة سبل إدارة الدولة التي لا تزال جسمًا مجهولاً لكليهما.

في مصر لم يتجه المصريون إلى إعادة التأسيس وإنما إلى تعديل دستور قائم، وانتهى الأمر بانتخابات قدمت الإخوان المسلمين للحكم وأنتج الوضع حربًا مماثلة علق فيها اليسار البرسيم على باب قصر الرئيس المنعوت بالخروف الإخواني، ورُوّج لأخونة الدولة رغم أن حكومة مرسي كانت تحوى فقط أربعة وزراء من الإخوان المسلمين. وكما الأمر في تونس حصل تحالف علني وضمني بين قوى النظام القديم واليسار والقوميين انتهى بتدمير كلي للتجربة السياسية الديمقراطية والقضاء على الإخوان المسلمين عبر مذبحة باركها اليسار واستبشر فيها بالحسم الثوري في تيار الرجعية العربية ممثلاً في الإخوان، وحتى اللحظة لم يستفق هذا التيار إلى أن نتيجة عمله انتهت لصالح عسكر المعونة الذي باع الأرض والعرض وأفقر مصر وصيّرها ذيلاً في السياسة الدولية في المنطقة والعالم.(فالنتيجة الأهم أن الإخوان يقبعون في السجون والمقابر).

في سوريا انطلقت ثورة سلمية تطالب بالحرية والديمقراطية برز في صفوفها الإخوان المسلمون ولو سار الأمر كما في مصر وتونس لانتهت إلى مسار سياسي يتقدم فيه الإخوان الأكثر تنظيمًا لكن التجربة انتهت بحرب أهلية حشرت فيها القوى الدولية والمحلية أنوفها بأدوات إرهابية فخربتها وعاد نظام الأسد مؤقتًا ليحكم ولو من وراء مليشيات شيعية وبتغطية من الطيران الروسي الذي وصل بفضل بشار لأول مرة في تاريخه إلى مياه المتوسط الدافئة.

ويمكن أن نضيف أمثلة أخرى، فالثورة اللبيبة كانت تتجه إلى وضع مريح للإخوان ومن سار على طريقهم ويمكن أن نعود إلى الحالة الجزائرية عام 1990 والتي تقدمت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية في الانتخابات فانتهت بحرب أهلية راح فيها ربع مليون قتيل.

النقاش لم يكن في السياسيات بل في حق الوجود.

الفقرات السابقة تظهر كما لو أن الإخوان كانوا ضحايا أبرياء وليس لهم ذنوب فيما حصل وهذا ليس القصد كما أنه ليس صحيحًا، ولكن رغم ذلك أؤكد أن الإخوان كانوا ضحايا، وهنا مستوى الخلاف في قراءة التجربة منذ الثورة فالاعتراض عليهم في مختلف الأقطار/التجارب لم يكن معارضة مدنية ديمقراطية لتفاصيل عملهم السياسي والإداري في الحكومات التي قادوها بل كان اعتراضًا على وجودهم في الحكم (وفي الحياة)من حيث المبدأ.

كل التحركات لم تجادل في أخطائهم التنفيذية داخل مشروعية الصندوق الانتخابي الذي أوصلهم لسدة الحكم بل اتجهت إلى منعهم من الحكم ولو كانوا مفلحين، ولم يكونوا فاشلين وكانت الأخطاء التي وقعوا فيها نتيجة مباشرة لمنعهم من الحكم (36 ألف إضراب غير قانوني في تونس) ولفقرهم في التجربة القيادية وهو فقر تشترك فيه كل مكونات التيارات السياسية التي لم تحكم قبل الثورة. فقد كان الجميع ضحية قبل الثورة وكانت الأنظمة تمنعهم جميعًا وعلى نفس القدر من التطور والتعرف على مفاصل الدولة وسبل إدارتها (رغم أنه يمكننا غربلة مواقع اليسار في الدولة زمن ابن علي) وكان الفشل نفسه يهدد تيار اليسار لو وصل قبل الإخوان إلى السلطة.

بعد إسقاط الإخوان والنهضة (ولاحقًا العدالة والتنمية في المغرب) استمرت القطيعة وساند تيار اليسار العربي كل ما يمكن أن يعيق الإسلاميين في بلدانهم ولو كانت أحداثًا تقع خارج الأقطار العربية وقمة ذلك الوقوف مع فلول القذافي التي انضمت بلحى داعشية إلى صف الخائن خليفة حفتر في شرق ليبيا، وتحت غطاء جوي إماراتي مصري فرنسي.

من هنا جاء تعاطف اليسار مع الانقلاب التركي الفاشل، فقد اتضح أن تركيا الأردوغانية واقفة في صف الإخوان بالدعم السياسي والمالي والإعلامي واتضح أن قطر تقف في نفس الصف وتمد يد العون للتيار الإسلامي مع حتمية التأكيد هنا أن المعونة القطرية للتجربة التونسية خاصة تجاوزت بكثير مساعدة حكومة النهضة إلى مساندة تجربة التحول الديمقراطي برمتها وليس أدل من الوديعة القطرية التي لا تزال تنعش البنك المركزي التونسي رغم ما كيل لقطر من اتهامات بالدعوشة.

توقع الحسم ليس دعوة للحسم غير الديمقراطي

بعد هذه السنوات من الإقصاء السياسي والتخريب (حرب وجود لا حرب حدود) وكثير منه ممول من الخارج وبأموال قذرة لا أرى احتمالات للتصالح واستئناف العمل المشترك بين التيارين فقد ربح تيار اليسار معاركه دون وخز من ضمير ديمقراطي. لقد فرح اليسار بانقلاب العسكر في مصر وزغرد لاندحار الإخوان في سوريا ولا يزال يمد يد العون لحفتر، بل إنه خالف كل خطاباته المعادية للرجعيات العربية وخاصة ممثلها الحصري المملكة العربية السعودية والإمارات اللتين ساندتا بلا تحفظ الانقلاب المصري وهللتا بفرح غامر لانقلاب عسكر تركيا ضد نظامها الديمقراطي وذلك أملاً في القضاء المبرم على النصير الإخواني الإسلامي في الإقليم العربي.

ولقد رأينا من عجب ذلك أن فصائل التيار القومي العربي التي طالما دافعت عن حارس البوابة الشرقية ضد الغزو الفارسي الصفوي قامت مرحبة بإيران العدو القديم مادام خطة تدخله تصب في إفشال احتمال تمكن إخوان سوريا من وضع قدم في حكم بلدهم بطريقة مختلفة عن بطل مذبحة حماه 1982 وهو نفس الموقف الذي جعل هؤلاء يقفون مع حصار قطر في معركتها الأخيرة لأن القضاء على إمكانيات قطر يعني بالضرورة قطع أسباب الحياة عن التيار الإسلامي في كل المنطقة العربية (أساسًا تيار الإخوان)، ولذلك تحدثت عن الحسم .

الحسم في أي اتجاه؟

كنت أوردت جملتي المثيرة بصيغة لو التي تفيد في تقديري المستحيل، فلو انتصرت قطر (وهو أمر مستبعد) لانهزم بانتصارها على الحصار كل تيار اليسار المعادي لها بصفتها ممول لعدوهم الإسلامي (اختار كلمة عدو عوضًا عن منافس)

إن انتصارها معناه مزيد من العون المشروع والمبرر (برأس صحيحة) هذه المرة لأنصارها وإعادة الروح إلى أجسادهم المنهكة بست سنوات من الهرسلة المستمرة والتي قادها اليسار أكثر من فلول النظام القديم الذي أكل من القصعة القطرية أيضًا (بالمناسبة الأموال الإماراتية أكثر وأقرب إلى جيوب اليسار من أموال قطر إلى جيوب الإسلاميين).

هذه إذًا ليست دعوة للحسم الجذري أو نداء ليقوم الإسلاميون بتصفية اليسار، بل هي توقع لما يمكن أن يحدث (ضمن الاحتمالات العسيرة لانتصار قطر على محاصريها).

إن حديثي كان ولا يزال وسيظل عن احتمالات معركة سيكون فيها النصر لجانب أراه قويًا وقادرًا على الحسم ضد قطر لا معها، أي إنني أرجح تكبيل قطر وقطع أجنحتها الإعلامية والدبلوماسية وتعجزيها على مساعدة من تراه لها نصيرًا في البلدان العربية، لذلك فالمرجح أن يواصل اليسار عملية الحسم في الإسلاميين لا العكس.

من هنا لا مجال لتكبيل قلمي بإيهام أنني أدعو إلى تصفية اليسار، إنني أرى اليسار العربي أقوى من الإسلاميين ولا أتحدث عن عدد الإسلاميين الغثاء الذي لا يفلح في حماية الصندوق الانتخابي بل عن قدرة كبيرة على التموقع ضدهم وهي قدرة ملكها اليسار في سنوات قمع الإسلاميين في سجون ابن علي ومبارك، قبل أن يتنفس الإسلاميون نسيم الحرية بالربيع العربي ويفشلون في إدارة الدولة.

المعركة مستمرة وبأموال كثيرة أكثرها يصب في جيب اليسار ضد الإخوان والموقف الدولي الذي حرّض الحصار على قطر لا يزال يقف نفس الموقف مع العسكر المصري ويحميه ويسكت عن جرائم الأسد ويضع خبرته القتالية مع حفتر، والحسم وارد أما الحوار فمستحيل، وإذا لم يكن لليسار العربي مقاتلون مسلحون في صف حفتر أو صف الأسد (وهو أمر يحتاج إلى حجج نفي من اليسار نفسه) فهي مسألة لا ترتبط برفض مبدئي ديمقراطي بل لقلة العدد.

بعد طول أمل في حسم ديمقراطي بين التيارين يحتكم إلى الصندوق ويتحمل نتائجه انتهى بخيبة ماحقة ،انتهي بصفتي مواطن عربي إلى أن الطهورية الثورية اليسارية لا تعدو كونها لغوًا مبينًا يرتزق من عسكر خياني ومن أموال نفطية رجعية وعندما تحسم معركة حصار قطر لصالح محاصريها الذين يملي عليهم دونالد طرمب خطتهم سأتحمل المسؤولية الكاملة عن هذا المكتوب وأقف أمام قاضٍ غير عادل بتهمة الخيانة، وإنني أراه يومًا قريبًا، قبل ذلك ليس لدي أي وجع ضمير ولن أتقبل دروسًا في الثورية أو الديمقراطية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات