كلهم يريد أن يكون رئيسا لتونس سنة 2019. السلوك السياسي للشخصيات المستقلة والمناورات الحزبية الكبيرة والصغيرة تتظاهر بإنجاز أشياء أخرى أو تعلن خطابات طيبة تجاه الشعب الطيب لكن في الخلفية تكمن رغبة ذئاب في فريسة. كل العيون على القصر. من هناك يمكن فعل شيء ذا بال لكن لمن؟ لا يتعلق الأمر هنا بمزايدة متعففة لكن محاولة تفسير العطالة السياسية المستشرية بين النخب السياسية والحزبية وأصحاب الأموال الذين يبحثون عن حماية ليشتروها مقابل إعفاءات ضريبة وتسهيل مكاسب خارج القانون في الغالب.
نظام رئاسي رغم الدستور
كانت طبيعة النظام السياسي من المسائل التي استغرقت وقتا طويلا من النقاش الدستوري أثناء مرحلة المجلس التأسيسي التي حكمت من قصر الحكومة بالقصبة لا من قصر قرطاج. لكن الدستور أقر بصلاحيات معقولة للرئيس في المسائل السيادية والأمنية وحرر يد الحكومة في التنمية والثقافة والتعليم فجاء النظام شبه برلماني شبه رئاسي بتقسيم للسلطات بدا لوهلة أنه معتدل. لكن وصول أول رئيس منتخب شعبيا بعد الثورة كشف رغبة عارمة في استعادة سلطات الرئيس القديمة وطالب الرئيس بشكل ضمني مرة وصريح مرات بأن تحال إليه مهام أوسع يستطيع من خلالها فعل شيء (كأن السياسة الخارجية والدفاع ليست كافية). وبالنظر إلى أن الساحة مخترقة بصراع مدمر بين اليسار والإسلاميين فإن الرئيس أفلح أولا وبذكاء يتقنه منذ تعلم على يد بورقيبة بتعميق الفرقة بين الصفوف( قرّب النهضة وظل يهددها بالجبهة ونقابتها) وأفلح ثانيا في أن يفرض الحكومات التي يريد (أشخاصا وبرامج). ولم يترك لشريكه الأبرز (حزب النهضة) الا مهمة التزيكة والتبرير. وبعد سنتين نجد أن الحكومة المحمية دستوريا تطلب الإذن من الرئيس للذهاب إلى الحمام. وبقي نص الدستور معلقا.
وفي أثناء ذلك لا أحد من النخب السياسية يجادل الرئيس في هيمنته على الحكومة. رغم علمهم بالدستور وذلك لسبب يتجلى شيئا فشيئا. إنهم يفكرون مثل الرئيس ويريدون منه أن يوسع فعلا صلاحياته على حساب الحكومة لأنهم يريدون المنصب من بعده ويرغبون في أن يتورط هو الآن في ذلك لتكون سوابق قانونية يعتمدونها ويوسعون بها عملهم لأنهم يرون أنفسهم جميعا رؤساء في قرطاج بصلاحيات بورقيبية.
من هم المتربصون بالقصر الرئاسي.
يمكن رؤيتهم بوضوح منذ الآن سيظهر أشخاص صغار وبلا شعبية في مقر اللجنة الانتخابية ثم يختفون بعد ضجة إعلامية صغيرة أو ربما من أجل لقب إعلامي رنان (مرشح رئاسي سابق) لكن الأسماء الكبيرة تتربص.
السيد نجيب الرئاسي يتقدم الصفوف ويعلن ترشحه منذ نهاية 2016 (أي قبل ثلاث سنوات) معتمدا على طول قامته أكثر من قوة جبهته الديمقراطية (تحت التأسيس) وطبعا معتمدا على الورقة التي يعتقد أنها صالحة بعد وهي عرض خدمات حماية على حزب النهضة (المرعوب) من غول طرمب القادم لتدمير الاخوان المسلمين.
آخرون يعلنون تعففا يقرأ مقلوبا فهم كامنون خلف واجهات حزبية صغيرة. لكن اختفاءهم المؤقت هو مناورتهم لاجتناب نقد منفلت في مواقع التواصل يوشك أن يدمرهم قبل الأوان بالنظر إلى أن ليس لديهم أي طرح عبقري يقدمونه للناس.
وآخرون يتمولون من الخارج ويحالفون المافيات الدولية في سيسيليا (صقلية) الإيطالية لتأسيس امبراطورية تبييض أموال صالحة لشراء الذمم في الوقت المناسب.
وليس هذا المهم بل المهم هو ما يشترك فيه السيد نجيب مع بقية النخب الظاهرة والخفية فالطموح حلال والترشح من صلب العمل السياسي ولكن هذا التكالب يكشف أمرين مهمين في السياسات التونسية وفي تفكير النخب.
الأول أن الجميع يفكر طبقا لباردقيم بورقيبي والثاني أنه يمكن تأجيل كل شيء وتوظيف كل شيء من أجل الفوز أولا أما القضايا الحارقة كالبطالة والتهميش والفقر الزاحف فكلها مسائل قابلة للتأجيل لحين التمكن من المنصب والمرور إلى الفتوحات الميدانية بواسطته.
البرادقيم البورقيبي
كلهم يفكرون مثل بورقيبة ويقلدونه بلا إبداع. لقد فكر الزعيم المؤسس كرجل يملك الحقيقة كلها دون الآخرين وتصرف على أن شعبه غبار من البشر بلا هوية وبلا تاريخ ويمكن تشكيله على هوى الزعيم. ومن ثم صبه في قوالب يضعها الزعيم ويتصرف فيها تصرف المالك الراعي في قطيعه. لذلك وسع صلاحياته إلى أقصى حد ممكن وفرض صورة للعالم (للبلد والشعب) يكون هو مركزها ومحورها وهي تدور حوله كما يدور نجم حول شمسه. وعلى خطاه سار الرئيس الهارب أمام شعبه. سلطة مطلقة وبلد تابع لرغبات الرئيس.
هذه الصورة حكمت النخب وتحكمهم بعد وبها يوسّعون صلاحيات قلصها الدستور في لحظة التأسيس الثاني (وتحت تأثير الصورة المكروهة شعبيا). وهي التي تحركهم الآن للتقدم إلى المنصب ولو بلا إمكانيات حزبية ولكن بتصور ثابت أن منصب الرئيس وحده كاف للحكم. وأن ما يسمى تحرر الشعب من رهبة الرئيس ونفوره من الدكتاتورية ليس إلا لغو صبيان في الفايس بوك سيتم تحقيره وردعه بواسطة جهاز إعلامي يتلقى أوامره من القصر كما يجري الآن في زمن الرئيس القائم. ومستعد للفبركة بالفوتوشوب. إن جوهر البراديقم البورقيبي هو احتقار الشعب وامتهان إرادته وإهانته بمنطق أن غبار البشر لا يفكر ولا يقترح لكنه يتبع ويطمع ويمكن رشتوه والرئيس فقط يمكنه فعل ذلك لذلك يقول كل سياسي لنفسه (أحوز القصر ثم أفعل به ما أشاء وهذا الشعب قطيع طيب يمكن الضحك عليه بكلمتين ) هكذا فكر بورقيبة وهكذا يفكرون ولكن من يملك أن يعيد الجني إلى قلب الزجاجة؟
الرئيس القادم سيختاره الغنوشي
الغنوشي زعيم النهضة بدوره يفكر في الرئاسة دون أن يبتكر براديقما مختلفا عن البقية من قصر قرطاج يمكن أن يقود الشعب. فهو لا يعترض على توسيع الرئيس الحالي لصلاحياته على حساب الدستور رغم أنه شريكه في السلطة. بل لعله السّند الأخير له ليكمل مدته الرئاسية بسلام. لكن مناورات الغنوشي مختلفة وتبدو فعّالة حتى الآن فهو يرتب علاقته الشخصية والحزبية بدول الجوار وخاصة الجزائر والثورة الليبية والمعروف أن حكم تونس بسلام مرهون بعلاقات هادئة مع الجزائر وليبيا. وهو يرتب علاقات دولية ظاهرها لتونس وباطنها له مع بلدان أوربية فاعلة في تونس وأولها فرنسا دون تناسي المانيا وايطاليا بورقيبة أيضا فعل ذلك تامين حماية خارجية قبل مغامرة الصندوق.
بقي تفصيل مهم في الداخل هل يريد الغنوشي المنصب لنفسه أم لشخص يختاره؟
لقد فشت فكرة الغنوشي رئيسا بين الناس لكنها لم تتوسع كما لو أنها كانت بالون اختبار للساحة والأكيد أن الفكرة ليست مستبعدة ولكن الأقرب منها للتحقق هو أن الغنوشي يمسك الآن بمفاتيح القصر. فالباجي منسحب بحكم السن والمرض. وحزبه أو ما تبقى منه في الواقع بلا مرشح ولا شخصيات اعتبارية بل إن الباقين به محتاجين إلى حماية الغنوشي بعد الباجي. فقد نشئوا على الاحتماء بجهة ما كأطفال عجزة. أما رأس المال المرعوب من الفراغ فيبحث عن الحامي الأثبت قدما على الأرض لذلك اعتقد أنه الأن ينظر إلى الغنوشي كاحتمال جدي برغم أنه (خوانجي بغيض).
بقية المرشحين بدأ بنجيب الرئاسي لا يملكون إلا الحناجر. وعداء مستحكم للغنوشي كلما زادوا منه انقلب عليهم.
السؤال الذي سيطرح نفسه في المستقبل القريب هو كيف ترتب مستقبلك مع الغنوشي وحزبه. ماذا يمكنك أن تعطي وماذا يحق لك أن تطلب في المقابل. لكن السؤال الذي لا يطرحه أحد قبل 2019 ماذا تحتاج تونس الآن وهنا في انتظار الرئيس القادم على براق المعجزات الرئاسية؟