تونس تدور في حلقة مفرغة كلما توهم الناس فيها مخرجا وجدوا أنفسهم في نقطة الانطلاق كأنهم يجرون في مضمار مغلق ولا يملكون حتى علامات حساب عدد الدورات في الفراغ. إحساس عام بالمرارة والخيبة وانكشاف الخديعة التي تنتج إحباطا عاما في النفوس. تسمعه في عبارات التذمر في كل مكان. يوشك اليأس أن يطبق على النفوس. مع دخول رمضان في واقع من غلاء المعيشة المنفلت ونتائج الامتحانات السنوية التي أعقبت سنة دراسية مضطربة لا تبشر بأفراح كثيرة.
في هذا الوضع السوداوي يقترح رئيس الدولة حكومة وحدة وطنية لا تستند إلى الحد الأدنى الشكلي أي بناء العمل الحكومي على مخرجات انتخابات 2014 بل تجاوزها إلى توافقات سياسية على غير ميزان انتخابي. وتبين من ردات الفعل السياسية استمرار منافقة الرئيس بتثمين المبادرة مع رفض الانخراط فيها وهو تظاهر بالرفض يبتز تحت الطاولة الرئاسية للحصول على مغانم حكم بلا قاعدة شعبية ولا برنامج.
الفشل والهروب إلى الإمام.
عند إطلاق مباردة الرئيس بتكوين حكومة وحدة وطنية في حوار صحفي مرتب على طريقة بن علي. تذكر الجميع الحكمة الرياضية القائلة بأنه لا يجوز تغيير فريق يربح. إذن فريق الرئيس (حكومة الصيد) وما جاورها من سلطة تنفيذية لا يحقق نتائج ووجب تغييره. ولكن قبل طرح السؤال عن البديل وجب السؤال عن أسباب الفشل.
فشلت حكومة الصيد لأسباب كثيرة أهمها فقدانها لبرامج فعلية يمكن تجميع الرأي العام حولها. ثم غياب الانسجام بين مكوناتها في ذات الوقت استهدافها إعلاميا من قبل أجندة تستبق كل تهدئة يمكن أن تفتح على محاسبة على قاعدة الدستور.
أما من حيث فقدان البرامج الجامعة لقد دخلت الحكومة على حالة اقتصادية مضطربة انهار بها مهدي جمعة(سلفها) إلى صفر بالمائة تنمية. وأغرقها في ديون غير محسوبة. ولم تزد هذه الحكومة على تدبر رواتب القطاع العمومي والمناورة على تأجيل كل مطلبية اجتماعية انفجرت في وجهها في كل مناطق البلاد.
أما من حيث فقدان الانسجام فقد ظهر في تصرف وزراء الحزب الأغلبي(النداء) الذي يسندها إذ لم يترك وزراؤه أية فرصة لرئيسهم ليسيطر على مجريات العمل. لقد شاهدنهم يتصرفون دون العودة إلى مقررات حكومة. ونسج بقية وزراء الائتلاف على منوالهم فبادروا خارج برنامج الحد الأدنى الحكومي وعقدوا الصفقات وأعلنوا المشاريع خارج كل برنامج بما كشف حالة هوان رئيس الحكومة أمام القيادات السياسية.
لكن الأمر ازداد سوءا وتحول رئيس الحكومة إلى مسخرة تحت مطارق إعلامية محترفة تسيرها أجندة سياسية تخاف أن يستقر الوضع السياسي فتتفرغ الهيئات الدستورية لتنفيذ إجراءات المحاسبة وإرساء العدالة الانتقالية وهو الأمل الأخير للشارع. وصل الوضع إلى نقل حالة الإحساس الفشل إلى النفوس فكأنها كانت تمهد لإعلان المبادرة بحكومة الوحدة الوطنية. لكن بمن ستشكل الحكومة وهل يمكنها إخراج البلد من الوضع السوداوي؟
النقابة مدعوة إلى الحكومة.
تضمنت مبادرة الرئيس شرط إشراك النقابة في الحكومة إلى جانب نقابة الأعراف وقد فجر ذلك سخرية سوداء من المبادرة فالنقابتان في نظر الشارع هما سبب البلاء. فحلحلة الوضع الاجتماعي ليس في جمعهما في حكومة واحدة لتحييد صراعاتهما. بل في النظر إلى دورهما خارج الحكومة وهو سبب للازمة.
إن المعضلة القائمة ليس في مكونات الحكومة الحالية رغم عدم الانسجام المذكور بل في تحديد أدوار الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين في المشهد العام وخروجهم عن قوانين التعايش الشكلية والعرفية. إذ توجد حالة انفلات واستقواء على النظام وعلى الدولة كأن لم تعد هناك سلطة لأية مؤسسة ولا لأي نص مهما علا.
الفئة(الطبقة) القادرة على الاستثمار وحل معضلة التشغيل في البلد(منظورو نقابة الأعراف)كمنوا للمرحلة حتى يستعفوا من كل محاسبة وحصلوا من المكاسب والترضيات ما جعل المال العام يتدفق في خزائنهم (تعويضات وتخفيضات ضريبة ورسملة بنوك خاصة وإسقاط ديون) ورغم ذلك يصرون على المزيد مقابل وعود كاذبة بالانخراط في برنامج بناء وطني ولا نخال أن إشراك نقابتهم في القرار السياسي بشخصيات تقترحها في حكومة وحدة وطنية سيجعلهم يتراجعون عن ابتزازهم للدولة بل العكس هو الذي سيحصل. فهم أقوياء ومنحهم المزيد من القوة بالسيطرة على القرار التنفيذي للحكومة سيجعلهم يحكمون البلد على هواهم وهواهم لم يكن أبدا وطنيا ولا شفافا. هذه الطبقة فاسدة ومنفلتة عن كل قانون وكل إجماع وطني وهي التي تدير شبكات الفساد في الجمارك والأمن والإدارة وكل مساس بنفوذها جر الويلات على البلد فالجميع على يقين بأن كل عمليات الإرهاب مرتبطة بمحاولات محاسبة لبعض رؤوس هذه الفئة.
في المقابل تفتخر نقابة الموظفين التي تزعم الدفاع عن العمال بأنها أقوى قوة في البلاد وأنها تخصصت في إسقاط الحكومات وعندما يتكلم أمينها العام فإنه يتكلم من موقع القادر على استبدال الوزراء بسهولة استبدال أحذيته. ولا يخاطب المؤسسات بصفته النقابية بل بقدرته السياسية. ولذلك فإن التودّد إليه باب للتوزير والمنافع. النقابة هي التي حولت الثورة إلى مطلبية قطاعية وفتحت باب ابتزاز الحكومات المتتابعة. إذ كانت تضعها بين خيارين إما الاستجابة إلى كل ما تريد النقابة أو(تبريك البلاد) لقد حصلت لمنظوريها من المكاسب ما جعل الإنفاق العام على الرواتب يستنزف كل إمكانيات تعديل اجتماعي. ولذلك فإن إدماجها في الحكومة لن يزيدها إلا غطرسة وابتزازا خاصة وأن قيادتها تستعد لمؤتمر حاسم تحتاج فيه إلى ترضية منخرطيها ولو على حساب بقية الفئات وعلى حساب استقرار البلد. الحل إذن ليس في توسيع المشاركين في الحكومة وإنما في إعادة تعريف مهام كل طرف وإلزامه بالوقوف عندها وهذه مهمة رئيس الدولة التي يهرب منها بمبادرة تكشف الفشل في الإدارة الذي يزيد الجزع من فقدان المنصب والغنيمة قبل أوانها.
مبادرة خارجة من مكتب السفير الفرنسي.
إن علامات فشل حكومة الحبيب الصيد ظاهرة منذ أيامها الأولى والتعديل الأول لم يصلح من حالها بل ميَّعها أكثر لذلك طرح السؤال عن الزمن لماذا الآن؟ نعتقد أن المؤتمر الاستعراضي لحزب النهضة والذي حضره رئيس الدولة وجامل قيادته قد أحدث في نفوس البعض حدثا. وتأويله(علاجه) هو اقتراح إدماج النقابيتين في الحكومة.هنا نخرج من المشهد الداخلي إلى محركاته الخارجية وهي الأشد وطأة على القرار الداخلي.
لقد كان لفرنسا دور رئيسي في حصول النقابتين على جائزة نوبل للسلام. وقد احتفلتا بالجائزة مع رئيس فرنسا قبل رئيس تونس. والأمر مكشوف للتونسيين فهذه الهيئات تتلقى أوامرها من السفير الفرنسي وفي أهون الحالات يسأل قادتها عما لا يغضب سعادة السفير فلا يفعلونه. وأمام ظهور مخيف لحزب النهضة وجب إعداد الحواجز لقطع الطريق من جديد(فالحوار الوطني انتهى). وليس أقدر من النقابتين إذا مسكتا جزءا من السلطة التنفيذية. لقد كانت فرنسا تعد بدائلها خاصة بعد أن خسرت كل الشخصيات السياسية التي كانت تعوّل عليها لقيادة البلد من مكتب السفير فقد تآكلت تلك الزعامات بالصندوق الانتخابي ولذلك وجب استبدالها وقد حصل بالجائزة.
الحديث في تونس الآن عمن سيكون رئيس الحكومة وعمن سيكون وزير كذا وعن الداخلين والخارجين لكن هذه تفاصيل صغيرة فالأمر الأساسي أن الحكومة القادمة ستكون طيعة جدا للمستعمر السابق وستصلها أوامرها على جذاذات صقيلة ورغم أن زعيم النهضة قال أنه سيشارك فيها بحجمه الذي حددته انتخابات 2014 إلا انه في ما بدا لي يرسل تطمينات لأنصاره دون الجرأة على فرض نتائج تلك الانتخابات التي تجعله الآن كتلة برلمانية أولى قادرة على إسقاط أية حكومة واستبدالها من حزبه. فحزبه يحب الاستماع إلى هوى السفارات.
خلاص الحل الباجي أنه مهما ازدهى التونسيون بتجربتهم السلمية فإنهم لا يخرجون (فلم يخرجوا قبل الآن) عن رغبات السفارة الفرنسية في تحديد خيارتهم ومازلت أمامهم مسافة طويلة ليثقوا في نتائج صناديقهم الانتخابية واعتمادها وسيلة حكم. لقد فقدت النخبة المتصدرة للمشهد وازعها الوطني ولم يعد لها من مطلب إلا غنائمها الشخصية والسفارة تعرف وتأمر وتوجّه. فأي وحدة وطنية مع نخبة ترابط في كفتيريا السفارة؟
بإمكان بعض التونسيين مباهاة الليبيين بالنجاة من الحرب الأهلية ولكنهم لم ينتبهوا إلى أنهم استعادوا الحماية الاستعمارية المباشرة لتقرر لهم ما يتناولون على موائد رمضان.