شعبان في بلد واحد والحرب شعواء

Photo

كان أحد شعارات الثورة التونسية في أوجها شعب واحد لا شعبان من بنزرت لبن قردان وهما منطقتان طرفيتان وكان الشعار يرد على محاولات اختراق الصف المتحمس للثورة ومنع الجهويات والنعرات من العودة وتعميق الأخاديد القديمة التي زرعتها السلطة في عمل طويل ودؤوب بواسطة وسائل كثيرة منها إثارة الحماس لفرق كرة القدم والتغطية على التفاوت التنموي بين الساحل وبين الدواخل. ولقد أمكن تجاوز الكثير من الحزازات في حينها وسكت المرجفون حول الثورة ولكن الانقسام الحقيقي ظل كامنا ويطل برأسه في المواعيد الانتخابية. إنه انشقاق طولي عميق فعلا بين فكرين ومشروعين يجعلان السؤال يعود بقوة هل نحن شعب واحد في بلد واحد أم نحن مختلفون إلى حد أن لا نتفق أبدا على مستقبل البلد وأن لا يكون لنا مشروع وطني جامع؟ وعند تهوين الخلاف نخفف بالسؤال هل الأمر متعلق بمشروع مجتمع أم هو مجرد اختلاف حول الأولويات؟ ونقول من أين نبدأ؟

ستون عاما والبداية مجهولة

لم نتفق منذ البداية. لقد أمسك الدولة تيار سياسي وفكري ينسب نفسه للحداثة وينزع عن خصومه كل حق في الرد وكل حق في الاجتهاد المغاير والمعارض. فرض التيار رؤيته وسن قوانينه وبواسطة السلطة الغاشمة لا بالإقناع الطويل النفس ألزم الجمهور الواسع بالاتباع الخانع. كان هناك نموذج مشتهى رآه القادة الأوائل وأعجبوا به وتبنوه ورغبوا في فرضه هو نموذج التحديث على الطريقة الفرنسية. لقد تشربوه بقوة وعادوا به من مهاجرهم ولكن بعد ستين عاما لا نزال نطرح الأسئلة هل هذا هو النموذج الذي يمكن أن يتفق عليه شعب كامل ويمر إلى بناء وطني قوي ومتماسك ومرض للجميع؟.

ليس بعد. لقد خلق هذا التيار التحديثي بوسائله القهرية أكبر تيار معارض له ظل يتغذى من معارضته ولا يصلان إلى حوار منتج لحلول وسطى إنه التيار الإسلامي الذي استعاد خطاب الأصالة في مواجهة الحداثة. قوة السلطة القهرية لم تلغ التيار الإسلامي ولم تعالج مواضع الخلاف بما قد يفقد الإسلاميين مرتكزهم الفكري المواجه. وها نحن نتواجه من جديد حول فكرة واحدة لا نعتقد إنها أولوية شعبية بالمرة ولكنها موضوع لذيذ ومنتج لفائدة كبيرة لدى النخب جميعها يجدون لها الكلمات الكبيرة والفتاوى الحاسمة والاتهامات الماحقة. وتسمح لهم خاصة بالهروب من طرح المواضيع الحيوية لشعب يفقر كل يوم.

فن الهروب من القضايا الحارقة

زمن الدكتاتورية والقهر المنهجي لمعت إحدى بطلات العلمانية بفتح نقاش عظيم وأصدرت فيه كتبا قيمة بيعت بألاف النسخ ووزعتها المؤسسات العمومية جوائز للتلاميذ هو جواز إتيان المرأة من دبر. لقد حلت المشكل وبكتت الأئمة من المذاهب الأربعة. كان ذلك أقرب إلى اهتمام النخب من حل مشكلة المياه في الزراعة في مناطق العطش وكان أولى من معالجة مشكلة الحريات الأكاديمية التي لم تكن تقترب من مراجعة طبيعة النظام السياسي والقانوني الذي يمكّن شخصا واحدا من حكم بلد بالحديد والنار.

وعلى غرار فتاوى القبل والدبر تعود مواضيع النخب المفضلة وهذه الأيام تم تجاوز معضلة وفتحت أخرى بنسق سريع يذكر بحماس الحملات الانتخابية الاستباقية. لقد تمت المصادقة على تجريم العنف ضد المرأة بنص مخصوص فلم تؤد موافقة البرلمان عليه (والبرلمان الآن ذو غالبية إسلامية) إلى فتح معركة انتخابية لذلك أعيد طرح مسألة جديدة تعديل قوانين المواريث الإسلامية لإقرار مبدأ المساواة في الميراث (رحل الأمر إلى لجنة مختصة لإعداد نص خارج البرلمان ولكن الأمر لن يتوقف عند نص الميراث فمازالت هناك مشاريع أخرى يطيب للنخبة طرحها بحماسة منقطعة النظير مثل حق اختيار الشريك وهو بوابة تشريع المثلية لاحقا).

هل كان التونسيون مشغولين بمعضلة مواضع لذتهم إلى هذا الحد. لقد دام الجدل حول ذلك أكثر من عشر سنوات. ولا أدري الآن إن كان التونسيون قد قبلوا الفتيا وتصالحوا مع أدبار نسائهم ولكن أعرف أنهم يعطشون وأن البلد مقدم على جفاف عظيم كان يجب البدء في معالجته بشكل جذري منذ عشرين سنة على الأقل. فقد ظهرت مؤشرات الجفاف منذ آخر السبعينات.

الشعب الأخر غير مشغول بالميراث

الشعب أو العامة أو الداصة أو الدهماء بحسب توصيفات قديمة تفرز الناس بحسب درجات التعلم والذكاء مشغول بالخبز فهو أشد وقعا على نفوسهم من اهتمام النخب. نسب البطالة في ارتفاع وكل سنة ترمي الجامعة أفواجا جديدة في الشارع بلا عمل ولا قدرات حقيقية على التدبير. فالتكوين الجامعي معزول عن حاجات الواقع المعيش.

لم تفتح الحكومات الجديدة طريقا جديدا لدعم البنى التحتية ولم تضع حجرا على أخر في بناء سدود يحتاجها البلد لمواجهة كوارث الجفاف. عملية إصلاح التعليم التي طالبت بها الثورة لا تزال معلقة بيد لجان نخبوية أخذت على عاتقها مطاردة النصوص الدينية من الكتب المدرسية وتمكن للغة الفرنسية كأنها لغة وطنية.

العملة الوطنية تنهار أمام الأورو والدولار. ومؤشرات المعيشة ترتفع والاحتكاريون يسرقون قوت الناس ويتحولون إلى لوبي نافذ. يحدد ما يأكل الناس وما لا يأكلون.

استشرى الفساد المالي والسياسي وفي يوم كتابة هذا المقال صدر حكم بالإدانة على وزير المالية بجريمة تهريب العملة. رئيس الحكومة صهل صهيلا في محاربة الفساد ثم نهق وأطلق سراح الموقوفين وطمر الملف في سياق الدفاع عن الاقتصاد الوطني والمصالحة الوطنية مع رجال الأعمال الذين يزعمون حماية البلد من السقوط.

هنا يتضح الشرخ بين هموم الناس وهموم النخبة. وهنا نجد الشعبين يختصمان حول المشروع الوطني. يتضح لنا الشعبان وتتضح لنا القضايا التي تشغل كل منهما. وليس بينهما رابط ولا وشيجة يمكن الالتقاء حولها واختراع نقطة في منتصف طريق الاختلاف.

صراع اجتماعي عميق

لماذا تذهب النخبة هذا المذهب في اختراع اهتمامات بعيدة عن هموم الناس وتكتيل الناس لحلها؟ الأمر بسيط شرحه في ما يبدو لي الآن

لم تعش هذه النخب مشاكل مادية كالتي يعيشها الناس منحدرات النخب الاجتماعية لم تشغلهم بالبحث عن الخبز في حضائر البناء وفي العمل الفلاحي لقد ولدوا لطبقات اجتماعية مرفهة وذهب تعليمهم بهم إلى مسائل غير ذات علاقة بواقع الناس التي يريدون حكمها أو توجهها. في الجامعات الفرنسية تعلم أغلبهم ومن لم يحظ بالصربون حظي بالتعليم عند من تعلم فيها فنقل إليه اهتماماته التي وجدها على قارعة الطريق الفرنسي المستنير بمشروعه وثورته. ولذلك كلما أمعنا في تأمل الفوارق بين الاهتمامات تبين لنا أنها إحدى وجوه الصراع الاجتماعي القائم في البلد بين فقرائه ونخبه الاقتصادية والمتعلمة.

سقط الجامع المشترك واغتربت النخبة عن شعبها وهمومه وفرضت عليه بحكم ما ورثت من مواقع القوة والنفوذ ما تراه مشروعها التحديثي.

إننا نعيش صراعا بين شعبين يترجم حتى الآن بأجندات قانونية وثقافية ويفتقد فيها الناس البسطاء كل عناصر القوة للمواجهة والرد كما جرى الأمر زمن المؤسس الأول الذي فرض إصلاحاته بقوة الحديد والنار ولم يستشر ولم يستفت. والمعركة مستمرة وتفتح على حرب أهلية سيربحها بلا شك المتمكن من أسلحة الصراع وهي المال والإعلام بينما سيجري البسطاء طويلا لتملك ما يمكن توريثه. فالنخبة لا تعرف أن الفقراء ليس لديهم ما يرثونه بالنصف أو بالثلثين وكيف لهم أن يعرفوا شعبا لا يذكرونه إلا لفرض ضرائب جديدة تمول سفرياتهم إلى فرنسا لتعلم الاجتهاد في تشريعات إتيان المرأة من دبرها فذلك مدار اهتمام مركزي عند نخبة لم تجع يوما ولم تشرب ماء المستنقعات.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات