أقف على ربوة المتفرج مما يحدث في إيران وأمعن في السخرية ممن يرون ما يجري بشائر ثورة شعبية ستعصف بنظام الملالي كما أتمتع بالسخرية ممن يرى نظام الملالي نفسه معصوما من كل زلل سياسي فالطرفان يختصمان أمامي ومن حسن الحظ أنهما في الفايس بوك وليس لأحدهما خيال كاف لينقد موقفه الشخصي مما يرى فالذين يقولون بالثورة الشعبية في إيران هم في الحقيقة لا يحبون الثورات بدليل أنهم انقلبوا عليها في مصر وكفروا أهلها وإنما حماسهم لثورة في ايران يأتي من قبيل تشهي موت العدو دون الخروج لقتاله بينما القائلون بعصمة الملالي يخفون انكشاف رغباتهم في الحكم العضوض لأنهم في جوهر فعلهم انقلابيون (ومنهم كل شبيحة بشار) يعجزون عن تخيل شعب يثور ويسقط حكاما بلا دبابة أليسوا قد قالوا عن الربيع العربي أنه مؤامرة عبرية لأنهم لم يجدوا لهم فيه مكانا؟
هذه الصراعات الافتراضية لا تستحق في تقديري الاهتمام أو التوسع في الكتابة حولها فهي ليست أكثر من كسل افتراضي. يراودني سؤال في علاقة بما حدث في تونس وما يحدث في ايران حيث ينسب كل الفعل الاحتجاجي للطبقة الوسطى ومطالب هذه الطبقة هي دوما مادية فردانية معادية لك خيال توسعي باسم الدين أو باسم تحرير الأمة أو حتى باسم التاريخ الإمبراطوري لدول كانت إمبراطوريات.
سيبونا من القضايا الكبرى
نطق بها رئيس حكومة تونسية جيء به أو رضي أن يؤتي به محمولا(ليس على ظهر دبابة بل في بطن طائرة) جاهزا للحكم فلما عرضت عليه قضية سن قانون معاد للتطبيع مع الكيان الصهيوني قالها بصوت جهير وبفرنسية سليمة سيبونا من القضايا الكبرى. وكان عليه أن يتذكر أن الثورة التي سمحت له بالحكم قادها شباب يرفعون في وقت وبحنجرة واحدة شعار تحرير تونس من الدكتاتورية وتحرير فلسطين من الصهيونية. فلم يكن عندهم فرق بين القضية القطرية المحلية وبين القضية القومية أي القضية الكبرى التي يهرب منها رئيس الحكومة ممثل الطبقة الوسطى ذات الأفكار/ أو الروح الفردانية.ما يجري في إيران مشابه لما جرى في تونس.
إيران تتوسع خارج حدودها بينما تذكرها طبقتها الوسطى أن الداخل أولى بما يعني قصر الإنفاق على المحلي دون الإمبراطوري. هذا لا يعني عندي أن توسع ايران في المنطقة العربية يتم بالضرورة لأجل فلسطين فمستوى الثقة في الخطاب الثوري القديم انهارت إلا عند أكلة الفستق الإيراني (وهذه العبارة في تونس تعني صنائع إيران وجواسيسها ومنهم كثير).
التوسع إمبراطوري يستعيد في تقديري أمجادا ما قبل إسلامية أي فارسية محضة إنما غلفت بغلاف إسلامي وببعض الخطاب الجهادي حول فلسطين ضمن أعمال/حيل /مناورات تفاوض على تسليح الإمبراطورية بالضغط على الكيان بواسطة منظمات مدربة مثل حزب الله أو حماس(كلما حوصرت عربيا).
التوسع مجدٍ فكل إمبراطورية توسعت وأثرت بالتوسع فلماذا لا تصبر الطبقة الوسطى الإيرانية على انتظار مغانم الإمبراطورية؟ الإجابة الممكنة على هذا السؤال توجد في لهفة نخبتي تونس ومصر في المرور السريع إلى إعادة تنظيم الدولة عبر انتخابات عجولة للوصول إلى نيل جزء الخيرات المتاحة دون الرغبة في تخيل زيادة عليها من ثورة عارمة تعصف بكل بنى النظام القديم. هذه أعمال من جنس واحد استعجال المغنم ضمن الموجود ولو بشروط النظام القديم.
النخب (الفكرية والسياسية ذات التكوين العلمي المتوسط والعالي) التي تشكل عمق الطبقة الوسطى في بلدان ذات بنى اجتماعية متشابهة مثل مصر وتونس والمغرب وايران رغم الريع النفطي تفكر بشكل فرداني وتقيس العام بمدى خدمته للخاص وتناضل من أجل مكاسبها الفردية أو القطاعية (corporatisme ) إن ما يهمها أولا هو الرفع من مداخيلها والتمكن أكثر من التمتع بالاستهلاك التفاخري فليس مطلوبا مثلا دفع الثورة العربية إلى تحرير فلطسين لأن المغنم القومي بعد تحرير الأرض يعتبر بعيد المدى بينما القطري(المحلي) ممكن في دورة انتخابية.
اختراق خطاب الديمقراطية
ما كل من رفع عقيرته بالديمقراطية ديمقراطي. لقد كشفت سبع سنوات من السعي إلى الديمقراطية في تونس وفي مصر أن الجميع ديمقراطي في الخطاب لكن كلما نظرنا في موقعه الاجتماعي ووجدناه ضمن الطبقة الوسطى تبين لنا أنه فرداني إقصائي في الممارسة وليس فقط في ما يتعلق بالصراع بين اليسار والإسلاميين (وهو عائق قوي في طريق الديمقراطية العربية بالخصوص) بل في الصراع القطاعي المهني بين النقابات والمهن الحرة والوظيف العمومي وعموم المفقرين الفاقدين لكل قدرة تنظيمية تحميهما من النقابات قبل أن تحميهم من الدولة.
ما يجري في ايران مشابه لما جري في تونس (استبعد هنا الرومانسية الحالمة بثورة شعبية إيرانية تقرب بين ايران العرب فيصيران أخوين) إنه صراع اجتماعي على إعادة توزيع الثورة الوطنية بشروط الأقوى على التنظم والحركة وليس أقوى من الطبقة الوسطة في مواجهة المفقرين الأكبر عددا والأضعف تنظيما.
الاختلاف سنجده في مستويات التنظم النقابي مثلا لكن جوهر الفعل / المطلب واحد التمتع بثمرات النمو (في حالة ايران باعتبار نسبة نموها إيجابية رغم انشغالاتها في الخارج) وفي تقاسم التراث القليل بالنسبة لتونس.
الطبقة الوسطى لا تعيش بالأفكار الكبرى ولا تهتم بمن يعيش منها فهي أوهام كبرى تعيق الوصول إلى متعة الاستهلاك. لا يتعلق الأمر هنا بتقييم أخلاقوي لسلوك فئة من الناس ولكنه الصراع الاجتماعي بمظاهر جديدة. فسؤال رجل أعمال صغير (من تونس أو من مصر) ما جدوى تحرير فلسطين بما هي عمل معاد للصهيونية إذا كان بالإمكان عقد صفقة في مقهى باريس مع صهيوني حول تصدير الإسمنت للكيان لبناء جدار عازل. نفس السؤال يطرحه أكاديمي يحب المؤتمرات الدولية الفخمة فيقيم معرضا بكائيا للهولوكوست في بلده أو يطرحه مثقف كبير يريد موقعا في اليونسكو أو منظمات الأمم المتحدة براتب عال.
ما يحدث في ايران لا يستنسخ أول الثورة الشعبية العربية لسنة 2011 بل يستنسخ ما بعدها من مطلبية فردانية تريد الفوز بمغانم استهلاكية ولا يهمها أن تبدأ في لعن تاريخ إمبراطوريتها الفارسية.
لقد روجت الريقانية ذات يوم أن الطبقة الوسطى هي الكفيلة ببناء الديمقراطيات في العالم ولذلك وجب رفدها وتمكينها لكن تبين أن ريقن وتاتشر ومرحلتهما كانت تفكر في السوق فالطبقة الوسطى هي تنشيط السوق الاستهلاكية ليس أكثر والديمقراطية عندها هي فتح أبواب السوق وليس أبواب الحرية فالحرية قضية كبرى تخيف الملهوفين على الأكل.
ولكن في حالة ايران وجب أن أقول شكرا للطبقة الوسطى الإيرانية بكل فردانيتها الجشعة لأنها تكف عني كعربي أذى امبراطوريتها الفارسية الموغلة في وثن العرق ما قبل الدولة والإنسان.