الوقت مناسب للسخرية غير أن السخرية تنقلب نواحًا. فنحن موضوعها إذ تحولنا حكوماتنا إلى مسخرة. وعلينا أن نتحمل الوضع بتحويله إلى كوميديا لنستمر في التنفس. والمتعة الوحيدة الباقية لنا في هذا الوضع هي أن نحوّل وزراء حكومتنا إلى كرة قماش فلا قيمة لهم أكثر من ذلك إذا وضعناهم في سياق تقييم علمي لسياساتهم وتصريحاتهم التي تكشف لنا يوما بعد آخر أنهم ليسوا منا وألاَّ علاقة لهم بما نعيش من ضنك يومي لنربط ذيل الشهر في رأس أخيه.
وزيرات ليلى
منذ شهرين ألقت وزيرة المالية تصريحا "أحمق" حول قيمة الدينار المنهارة فدفعته إلى الحضيض مما اضطر الرئيس إلى استبدالها (الرئيس هو الذي يعين الوزراء فعلا بشكل مخالف للدستور لا صنيعته الشكلية المكلف بمهمة رئيس حكومة) ومنذ أيام صرحت وزيرة الرياضة بأنها محسودة لجمالها وأن منتقدي سياستها يغارون من حسنها. وخلال هذا الأسبوع أفاضت وزيرة المرأة الكأس بتصريح لا يمكن أن يصدر عن شخص يعيش في تونس ويتحكم في مصير سكانها.
فالوزيرة المكلفة بالأسرة والمرأة ترى أن العلاج الجذري لنفور الشباب من بلده وركوبه المخاطر إلى الضفة المقابلة يمكن علاجه بالموسيقى وممارسة رياضة اليوغا. إذ يكفي حسب رأيها أن تمارس الأم الحامل رياضة اليوغا مع شيء من الموسيقي الناعمة حتى تنجب طفلا يحب بلده ولا يهاجر على مراكب الموت.
لقد أولتنا الوزيرة ظهرها فهريناها بالسخرية ولكن هل تشعر الوزيرة بسخريتنا وهي التي تعيش في كوكب آخر يعالج أمراضه النفسية باليوغا؟ إننا نسخر في النهاية من أنفسنا ومن وضعنا البائس تحت حكومة بائسة. ولكن بقي لنا أن نربط الأسماء بالمسميات وهذا آخر عزاء لوعي قد يقلل من بؤسنا وينشر أملا ضعيفا.
هذا الطاقم الفاشل من الوزراء هو كوادر دولة بن علي التجمعية. هؤلاء هم رؤوس الإدارة التي خلفها لنا تركة ثقيلة. جمعهم الرئيس في حزب النداء على عجل فانطاعوا له واستعادوا به سلطة انتزعتها منهم الثورة. انكشف لنا من كان يحكمنا قبل الثورة وعرفنا لماذا فشلت دولة بن علي رغم الدعاية الفجة عن الكفاءات الرهيبة والبرامج التي تصيبنا لقوتها بالدوار (كما قال الرئيس في حملته الانتخابية). هؤلاء هم التجمع الذي حكم ربع قرن كامل. وعاد ليحكم. هذا ما أخرجت مدرسة التجمع وجامعاته.
لم يكن لهم همّ غير أن يرتقوا المناصب ويغنموا فيئها أما معرفتهم بالبلد والوضع المزري للناس المفقرين في الأرياف فقد أثبتوا لنا ويثبتون في كل خطوة أنهم منقطعين عنه بل لعلهم إذا لم نحسن الظن يمعنون في أهانته انتقاما مما أحدث بهم من زلزال. كأنما يقولون لربتهم المخلوعة نحن ننتقم لك ممن أطردك من تونس ذلك لأن قيادة التجمع في سنواته الأخيرة وخاصة الطاقم النسوي منه كان يمر بغربال ليلى التي لم تذهب إلى المدرسة. ولكن نساء التجمع (وكثير من ذكوره) كنّ يفرشن لها كرامتهن (وهل لهن كرامة؟) ليرتقين في السلم الإداري الذي مكنهن الآن من تصدر قيادة النداء والطموح إلى الوزارات.
الزوابع والتوابع
في نفس اليوم الذي انعقدت فيه ندوة مثقفات وبرلمانيات حول المرأة الريفية في نزل خمس نجوم بمدينة الحمامات السياحية وحضرتها مناضلات حقوق الإنسان ونساء الجندر وشاعرات قصيدة النثر ليبحثن عن حلول للنهوض بالمرأة الريفية. انقلبت شاحنة تحمل ثلاثين امرأة ريفية كن ينقلن للعمل في جني الزيتون في أرياف القيروان. الشاحنة مخصصة لنقل الدواب. خارج القانون وصاحبها يعمل مقاول أنفار يعيش من تجارة اليد العاملة. وهو عمل انتشر في السنوات الأخيرة في مناطق الشمال والوسط والساحل (لم يصل إلى الجنوب لأن ليس هناك عمل أصلا). ويتمثل في تجميع النساء ونقلهن إلى المزارع وغابات الزيتون. ثم إعادتهن إلى منازلهن ليلا بعد اقتطاع ثلث أجرهن نظير ذلك.
كل العمل يتم خارج القانون المنظم لنقل الأشخاص والمنظم للعمل في القطاع الخاص والأمن الترابي يرى ويسكت أو يقبض ويغض الطرف ونساء الجندر يتحدثن تحت إشراف الوزيرة المكلفة باليوغا عن النهوض بالمرأة الريفية.
الوقائع (الأقدار) تأبى ألا أن تكشف البون الشاسع بين اهتمامات النخبة السياسية والفكرية ووسائلهن البيداغوجية وبين الواقع المعيش لساكنة الدواخل المفقرة. مسافة قرن أو تزيد بين المعيش اليومي وبين النخبة المغتربة عن شعبها. لذلك لا غرابة أن تفكر الوزيرة في علاج الهجرة السرية باليوغا وسماع الموسيقى أثناء الحمل. وقبل الوزيرة قالت مثقفات يحسن الظهور في التلفزة بأنه يمكن التصدي للإرهاب المعولم بالرقص في الشوارع فالرقص فن يعالج الإرهاب.
في الأثناء نسيت الوزيرة أن تختار لنساء تونس الحوامل نوع الموسيقى العلاجية فحكومة النداء وشركائها المتدينين خاصة يروجون لفن يكرر على مسامع الناشئة صباحا ومساء أغان تقول (عيشتنا كالزبلة في البوبالة وترجمتها أن حياتنا كحياة المزابل في سلة المهملات القذرة الملقية في الشوارع) ويعتبرون أن تلك موسيقى تبث الأمل في الشباب.
كيف نضحك في جنازتنا؟
يقول لنا المثقفون جدا في بار الصحفي (وهي حانة خصصها بن علي لبيع الخمور لطاقم الصحفيين بأسعار مخفضة) أن نضيف إلى القمع وعي القمع لنصل إلى انتباه كامل بضرورة الثورة. لذلك يربكون تشاؤمنا الواقعي إذ يلزموننا بالبحث عن جمل متفائلة في ليل الحكومة البهيم. ولكن كيف نضحك في جنائزنا على الطرقات وعلى البحار القاتلة؟ الجمل المتفائلة لا تطاوعنا فكيف للمرء أن يبتسم وهو يحسب أعداد الموتى؟
لقد تفاءلنا أيام كنا نحسب أعداد الشهداء ونبني بأرواحهم الزكية بلدا جميلا في الخيال. ثم قلنا نصبر على التركة الثقيلة حتى تتفتت وتزول ثم يكون بناء بحق فقد بلغ التخريب عمقه.
نفيق من سكرة الانتصار على المنظومة على هزيمة ماحقة ونطلب الغفران من الشهداء ونقول ساخرين سنعالج مصيبتنا باليوغا أثناء فترة الحمل القادمة. ربما نغير نوع الموسيقى أيضا. وننتظر تخمة الوزيرة من المنصب فتعود إلى بيتها تمارس اليوغا وتعلق اسمها ضمن قائمة طويلة من الوزراء السابقين. المشكل أنه في هذا السياق من الخيبات المتسارعة لا نجد إلا من يقدم نفسه على عتبات الوزارات كأنهم ذباب على غلة فاسدة. ويطول بنا ليل الانتظار أن يكتفوا جميعا من دمنا في البحر والطرقات.
ولولا بقية من إيمان يتعقل الفعل الإنساني لجثوت داعيا موسى آخر بعصاه يشق لنا بحرا لنعبر حيث لا نرى تركة بن علي، فكل بلاد أرحم دون وزيرات ليلى عمق النظام الذي يقتل أطفالنا ويستحيي نساءنا، بل إن فرعون كان أرحم إذ لم يكن له شعب من السوقة ولم يكن يعرف اليوغا.