أعلن حزب النهضة التونسية في مؤتمره العاشر المنعقد بتونس في شهر مايو 2016 تحوله عن الأصولية الإسلامية إلى المرجعية الوضعية المدنية واستشعر المراقبون من خطاب الحزب وخاصة من خطاب مؤسسه ورئيسه الحالي أن مرجعية الإسلام السياسي قد استنفذت بعد تجربة السلطة وأن المطروح هو ابتكار سبل أخرى مختلفة لقيادة بلدان مسلمة لا تحتاج من يعيد أسلمتها وقيادها نحو مجتمع أسلامي فاضل مماثل مستنسخ من العصر الراشدي الخالي من الأخطاء والعابق بروح النبوة.
ردات الفعل حول هذه النوايا المعلنة داخليا اختلفت كثيرا لكن التوجه الرافض لها هو الأعم الأغلب. بل إن عريضة الجامعيين الذين كانوا ذات يوم حزام وزارة محمد الشرفي وإصلاحه القائم على تجفيف منابع التدين واصل بحرص شديد ربط النهضة بالإرهاب دون أن يتزحزح قيد أنملة عن خطاب بن علي سنة 91. للتاريخ فإن الذين أمضوا العريضة الأخيرة هم الذين كانوا يضعون الكلام على لسان بن علي. لكني لن أتابع هنا ردات الفعل بالتفصيل سأبحث في ما إذا كان تحول النهضة هو التحول الأول في تاريخ الأحزاب السياسية والمنظومات الفكرية التي أنتجها المجتمع التونسي في دولة الاستقلال أم أن هناك تحولات عميقة سبقت ذلك. وما هي أسبابها ومن استفاد منها وهل تدلنا على طبيعة المعارضات التونسية المتتابعة ضد نظام سياسي ودولة تشتغل بالكيد الحريمي. اعتقد أن هناك معنى آخر غير التشكيك في نوايا النهضة.
الانتريزم أو التسرب إلى مفاصل الدولة.
اعتقد أن أكبر التحولات الإستراتيجية على مستوى الفكر كما على مستوى الممارسة (قبل تحولات النهضة) قد عاشها اليسار التونسي بعد أزمة 1978 النقابية. فقد قادت فصائل اليسار التونسي معركة طويلة وشرسة ضد النظام منذ نهاية الستينات نبراسها في ذلك تفكير متشبع بالماركسية اللينينية وتكتيكاتها وبنموذج الثورة الكورية والصينية على اختلافهما إلى أن اصطدمت هذه التيارات بقوة النظام في 1978 وفقدت سلاحها الأحمر أي النقابة القوية التي كانت تسربت إلى مفاصلها ووظفتها في أفق ثوري.
بعد انقضاء فترة المطاردة تغيرت سياسة اليسار التونسي تجاه النظام. ويبدو أن هناك فترة تفكير عميقة دارت في السجون وفي باريس حيث هاجر الكثير من القيادات اليسارية. نتج عن هذه المرحلة التي امتدت من جانفي 1978 إلى حين انجاز مؤتمر النقابة في قفصة 1981. تغيير عميق في التكتيكات وأساليب العمل السياسي. دون أن نغفل أن هذه المرحلة هي مرحلة ظهور التيار الإسلامي بقوة في الجامعة(منطقة نفوذ اليسار التقليدية) وفي الساحة السياسية.
خفت صوت اليسار ضد السلطة واختفت القيادات من الساحات لنجدها في الإدارة وفي مواقع التأثير القوية كلجان الانتداب في الجامعات واختيار البعثات العلمية واللجان الأكاديمية والبحثية ولجان الدعم الثقافي في وزارة الثقافة حيث توزع غنائم كثيرة لصناعة ثقافة بلون واحد. كما سنكتشف لاحقا في التسعينات أن أغلب ضباط الداخلية الكبار هم من اليسار. وأن ماكينة الإعلام النوفمبري كانت يسارية.
لا يمكن مواجهة السلطة مباشرة بل الأفضل امتلاكها من الداخل والسكن في مفاصلها وخدمة البرنامج الثوري بوسائل السلطة نفسها كان هذا هو الاجتهاد الفكري والذي أنتج تلك الخطة. لقد آتت هذه السياسية أكلها وفيرا. توقف الصدام المباشر مع السلطة وانتهى ثمن الدم. وأمكن التحكم في مسارات السياسة من الداخل خاصة منها الثقافية والتعليمية والإعلام (مواقع وأدوات صناعة الرأي وتوجيهه).
لم يبق لليسار خطة أخرى غير الانتريزم. لقد جرب الصدام وفشل ثم جرب التسرب ونجح. وكشف قدرة كبيرة على تغيير فكره وأساليب عمله في مجال علاقته بالنظام السياسي وبالسلطة القائمة وعرف كيف يمرر أفكاره وبرامجه الثقافية والتعليمية دون حاجة إلى مظاهرة واحدة.(رغم انه احتفظ دوما بخطاب عالي النبرة بين فصائله الطلابية لكننا اكتشفنا في حالات كثيرة أن قيادات العمل الطلابي ينتهون قيادات أمنية بعد التخرج).
لكن هل انتصر اليسار على النظام؟ وأنجز مشروعه الاجتماعي الذي من أجله ظهر وتشكل وعمل وناضل. أم صار جزءا من النظام؟
لقد سرقه النظام من نفسه واستخدمه وهو يعتقد انه يستخدم النظام فأنجز مشروعا آخر يعتقد أنه مشروعه لكنه في الواقع مشروع النظام أي تصفية كل الطامعين في السلطة والثروة خاصة منهم الصاعدين من الآفاق لأنه لا يجب أن ننسى طبيعة الكتلة الارستقراطية الأولى التي أسست هذا النظام واعتبرت الدولة ملكا لها بل حقا لا ينافس عليه تلك الطبقة روح تفشت في النظام.
كل قدرات اليسار واجتهاداته في التعديل النظري والتأقلم السياسي والتعايش المدني(غير الثوري) أوحى بها النظام واستفاد منها وأحسن الجزاء أو التوظيف وهو الأصح. لقد كانت طبقة رأس المال (الدستورية ثم التجمعية ) محتاجة لحماية نفسها من المتسلقين (العمق الريفي المفقر لكل التيارات السياسية الحديثة) وكانت محتاجة إلى موظف نشيط يقوم بذلك فكان اليسار.
لقد قال اليسار بحتمية مساندة السلطة ضد "الخوانجية". طبقا لتكتيك عملي ثوري يقوم على تصنيف الأعداء إلى رئيسي وثانوي. ووجدنا أن العدو الثانوي هو السلطة بما يعني تبرير التحالف معها ضد التيار الديني العدو الرئيسي. في ذات الوقت انشغل الدساترة والتجمعيون بتملك الثروة وذلك همهم من السياسة (الساحل خاصة) وتخلوا عن الإدارة إلا قليلا. فالثروات الحقيقة في البلد يملكها التجمعيون لا اليسار ومفاصل الإدارة ليست بيد التجمعيين. لقد اكتشفنا بعد الثورة أن الإدارة في مجملها تحت تصرف اليسار فإن لم يقدر عليها من الداخل سلط عليها النقابة من خارجها.
لم تنفذ هذه الإدارة برنامجا اجتماعيا يساريا قريبا من أطروحات اليسار التي ناضل من أجلها في السبعينات لكنها نفذت بنجاح كبير برنامج استئصال الإسلاميين طيلة ثلث قرن. وهي الخطة التي يبدو أنها نضجت في أول الثمانينات ولا تزال فاعلة. والمستفيد الوحيد هو طبقة رأس المال العدو اللدود في خطاب يسار السبعينات.
اجتهاد النهضة إعادة تجربة اليسار.
يعيش الإسلاميون بشعور أنهم واصلون إلى تملك السلطة والتمكن من إدارة البلد وما اجتهادهم الأخير إلا خطوة على طريق التمكين. لم يعد يهمهم هداية الناس إلى الإسلام بل تملك الإدارة من الداخل والتموقع لحكم المجتمع والدولة(الاندماج في النخبة). الإدارة اليسارية والنقابة اليسارية أفشلت حكم الإسلاميين وشوهتهم بآلتها الإعلامية المدربة. ويقنوا أن لن يحكموا معها إلا بتملكها والاجتهاد الأخير هو تسمية رومانسية لمشروع انتريزم جديد ومتوحش. يستهدف مواقع اليسار في جسد الدولة.
من وجهة نظر المظلمة التي سلطت على الإسلاميين يصبح الانتقام مشروعا بل أخلاقي لكن من وجهة نظر بناء الديمقراطية فإن ثارات الماضي تخرب المستقبل. وهو ما يجري الآن بنسق حثيث لا يسمح بأية لفتة مراجعة.
في هذه الطريق السعيدة لم يكتشف الإسلاميون أنهم يتحولون إلى صنيعة الطبقة الغنية تكيّف فعلهم وتطلب منهم مهام محددة كالمصالحة دون محاسبة وغض الطرف عن العقود والصفقات بمنطق أيها الإسلاميون تواطؤا معنا لنقبلكم بيننا فالمكان لنا ومفاتيحه بأيدينا.
إننا نشهد استبدال النظام لموظفيه الإيديولوجيين. استنزف اليسار في معركة استئصال الإسلاميين الذين لم يموتوا بل عادوا بقوة ويطالبون بحقوق (كأنهم أصحاب حق) لذلك ندخل مرحلة رشوة الإسلاميين واستعمالهم وبالنظر إلى الثارات القديمة سينشغل الإسلاميون في مطاردة اليسار.ويواصل أركان النظام حماية ثرواتهم والزيادة عليها بأسلوبهم الذي يتقنونه.
إن تحول الإسلاميين الآن نحو العمل المدني لا يختلف عن تحول اليسار في نهاية السبعينات إلا أنه معلن على رؤوس الملأ في حين فضل اليسار التسرب بصمت إلى مفاصل النظام مع الحفاظ على الخطاب الثوري الجذري. كلا التيارين مر بفترة عذاب ثم تاب. لم تخسر طبقة المال شيئا في المعركتين وهاهي هي تستعد لفصل آخر. تتابع فيه اشتباك الآفاقيين في مرضاتها.
في رأس الإسلامي المقهور يوجد عدو يحتاج إلى التصفية هو اليسار (مبدأ المعاملة بالمثل). واليساري الواقف في المواجهة يعرف انه قد أضر بالإسلامي وأمامه خياران إما الاعتذار المفضي للتعايش أو الاشتباك الدائم واعتقد أنه قد اختار الاشتباك لضمان تدمير الخصم. وهذه هي بوابة الحرب الأهلية التي لم يعد منها مناص. ولن تنقذنا منها حكومة الوحدة الوطنية المغشوشة التي يحاول أركان النظام تركيبها من عناصر متنافرة.
لنستعد للحرب بين التيارين. وهو الحل الوحيد ليصلا كلاهما إلى حالة وعي بأنها حرب الفقراء ضد بعضهم والتي تجني البرجوازية الفاسدة فيئها. يجب أن نحرض هذه الحرب حتى يسقط التياران مضرجين ويعلنا هدنة المهزومين لنبدأ التعايش.