إن إحدى أكبر المعضلات التي واجهتها الدولة العربية الحديثة هي كيفية بناء نظام ديمقراطي على النمط الغربي دون إقصاء الإسلام عن السياسة اليومية، ومأتى هذه المعضلة أن الإسلام النص والتاريخ ليس مطابقًا للمسيحية وتجربتها في الهيمنة على الدنيوي السياسي عبر تاريخها الطويل.
تجارب البناء السياسي العربي الحديثة حسمت النقاش بإلغاء الدين كمصدر للتشريع بدرجات متفاوتة، فكانت تجارب علمانية في جوهرها وإن لم تأخذ من العلمانية الغربية جوهر الديمقراطية السياسية القائم على الحريات والتعدد والتداول على السلطة.
عندما ظهرت حركات الإسلام السياسي في الوطن العربي عارضت الأنظمة القائمة بأطروحة أن الدين الإسلامي ليس التجربة الكنسية المسيحية، وبالتالي يمكن بناء الدول انطلاقًا من المرجعية التشريعية الإسلامية فتاريخ الإسلام سمح ويسمح دومًا بهذه الإمكانية.
لم تنتج هذه المعارضة الإسلامية إلا طعنًا في شرعية الأنظمة القائمة ولكنها لم تصل إلى تعديلها أو إسقاطها خاصة أن الأنظمة أفلحت في التخفي وراء خطاب ديني غير معاد للتدين الشعبي، بل تبنت في ردهات كثيرة الدين وخطبت قياداتها على المنابر خالطة بين الدور السياسي والإمامة الدينية (بورقيبة وعبد الناصر والحسن الثاني).
عندما انطلق الربيع العربي عادت حركات الإسلام السياسي إلى المشهد من سجونها ومنافيها وطرحت السؤال من جديد: كيف نبني الدولة عبر التوفيق بين المدني/الدنيوي والديني الإسلامي؟ وهنا عاد النقاش إلى بدايات ظن كثيرون أنها انتهت، والسؤال لا يزال مفتوحًا: كيف نبني تجربة سياسية إسلامية مختلفة عن تجربة البناء السياسي الغربي القائمة أساسًا ضد الكنيسة؟
النموذج الغربي نموذج مركزي يفرض كونيته
نموذج الدولة المركزية الغربي نموذج نجح في خلق الرفاه المادي وحافظ على حرية الأفراد وبنى آليات التداول الديمقراطي، فصار نموذجًا مغريًا، خاصة إذا نظرنا إليه من زاوية الدولة العربية الغاشمة التي تشكلت عبر تجربة طويلة من الحكم السلطاني القهري (هناك قليل من الناس من يقدر فائض النهب الاستعماري في بناء حالة الرفاه الغربي).
الإعجاب بهذه التجربة لدى النخب العربية (السياسية والفكرية) دفع إلى قراءة في تاريخ الحكم العربي عبر تاريخه الطويل كانت تنتهي دومًا بإلغاء كل نقطة ضوء محتملة فيه، فهو حكم فاسد إذ يستند على شرعية دينية مدعاة، فينتهون إلى مماثلة الإسلام بالمسيحية والخروج بحكم بات كل سياسة تستند إلى الدين باطلة.
ردت حركات الإسلام السياسي على هذه المماثلة بفرز يستثني فترة الحكم الراشدي وبعض الردهات المضيئة وجعلتها إمكانية قابلة للاستعادة وبنت عليها أيديولوجيا كاملة، لكنها لم تحظ بفرصة اختبار ويمكن القول إن الاختبار الوحيد كان بعد ثورة الربيع العربي وقد سقط الكثير من مسلمات هذا الفرز خاصة في مصر فلم تجد هذه الحركات ملجأ إلا في الدخول في الحكم باجتهادات سريعة باسم فصل الدعوي عن المدني أو الإسلام الديمقراطي (تركيا والمغرب وتونس)، بما رجح أطروحة إلغاء تجربة الدولة الإسلامية وفرض التفكير من خارجها أي من داخل النموذج الغربي الكوني، بما يعيد النقاش إلى بدايات عسيرة: هل نموذج الدولة الغربية هو النموذج القَدَرُ؟
مراجعة نموذج الدولة في الغرب لا تصل إلى مراجعة الموقف من الدين
توجد حركة مراجعة فكرية عميقة لنموذج الحكم في الغرب، يقودها في الغالب يسار جديد ينقض فكرة المركزية ويقول بالتعدد الثقافي، يسمى نفسه النقد الديكولونيالي، يوسع تيار المراجعات لتمس أدوات الهيمنة المركزية على المواطن الغربي وتمس الإرث الاستعماري المدمر لثقافات الشعوب غير الأوربية وقدراتها على البقاء.
لكن هذا النقد الجديد لا يمس مسلمات النموذج الغربي العلمانية (فصل الدين عن شؤون إدارة الناس/الحكم) لأنه ببساطة لا يجد في تراث الكنيسة حالات حكم تبرر استعادة العلاقة بين الحكم المدني مركزيًا كان أم غير مركزي.
يستقبل الكثير من اليسار العربي هذه المراجعات ويحاول التحرر بها من الهيمنة الغربية (معتبرًا إياها حركة تحرر جديدة) لكنه يتوقف عن قبولها إذا ظهرت فيها إمكانية القبول بالتعدد الثقافي في بلدان عربية، لأن القبول بالتعدد يفسح/يفرض مجال حوار وتعايش مع الإسلاميين المرفوضين من حيث المبدأ (وهو رفض مؤسس في أطروحات اليسار العربي).
بل إن الإسلاميين يتبنون هذا النقد، فهو ليس موجهًا لهم لذلك يحررهم نفسيًا من الانخراط في النموذج الذي يقصي المرجعية الدينية، مؤكدًا على وجود اختلاف في التجارب بما يشرع لوجود متعدد داخل الاختلاف ويسمح لهم بحالة إنكار الفشل في إنتاج مرجعيات أو أطروحات حكم من تاريخ الدولة الإسلامية المشتهاة.
ما مآلات هذا النقد المراجع على مسارات الهيمنة وأدواتها؟ وهل ستساعد على وضع تصورات مختلفة عن النموذج الكوني الغربي للدولة؟
الجماعات الصغرى في مواجهة الدولة المركزية
بديل نقد المركزية الغربية من الداخل ينتهي إلى تقديم أطروحات الحكم المحلي وتوزيع السلطات على الفاعلين الأصغر أو الطرفيين، فيما يشبه العودة إلى مرحلة ما قبل الدولة المركزية، لكن بأدوات تسيير حديثة تعتمد التقنية المتقدمة، وهذا المشروع التفكيكي يؤذن بتلاشي أدوات الهيمنة في الدولة الغربية نفسها وفي العالم، لكنه يقدم قوى السوق المعولمة.
يجد المهيمن عليهم فرجة بين المركزيات لإدارة تفاوض بعقل تجاري/نفعي غير سياسي وبعيدًا عن الثقافي (الذي تجسده الفرانكفونية/النموذج الثقافي الفرنسي أحسن تجسيد)، وهنا لا يعود النقاش إلى نقطة مكانة الدين في السياسة بل يذهب إلى معالجة مشاكل التنمية والمشاركة في الحكم من موقع طرفي، بحيث إذا استبشر الإسلاميون بنموذج تطبيق اللامركزية في أوطانهم فإنهم لا يعون (مثلهم مثل اليسار العربي) أنه نموذج قائم ضد كل أطروحة مركزية بما في ذلك دولة الإسلام المشتهاة أو المتخيلة فهي في جوهرها نموذج مركزي لم يراجع مسلماته، أي أن جدال القرن العشرين العربي بشأن مرجعيات الحكم دينية أو علمانية لم يعد أولوية.
نموذج اللامركزية هو نموذج عملي براغماتي خال من الأيديولوجيا، يقدم هموم الناس اليومية على مجادلة الأطروحات النظرية الكبرى التي هيمنت على الفكر السياسي منذ عصر النهضة الأوروبية الذي جسدته الدولة المركزية كنموذج إدارة يعدم الاختلاف، وهنا يلتقي الإسلامي مع اليساري في موضع الإحالة إلى التقاعد الفعلي أمام الفاعل الصغير في المحلي، فمواضيع النقاش تتغير ويصبح السؤال ماذا ينفع الناس (الأمن والغداء) ضمن الحرية؟ أو كيف نضمن حرية الكسب والمشاركة دون هيمنة أشخاص أو أفكار مفوتة؟
هل هذا في وارد التنفيذ القريب؟
هذا أفق نظري بعد لكنه يفرض نفسه وستكون بعض أدواته تفكيك مركزية الدولة الغربية نفسها التي تتهاوي أمام السترات الصفراء على سبيل المثال، ستحتج أطراف بعيدة على مركزيات تابعة (الدولة العربية مثالاً) بالتقدم في تطبيق اللامركزية الغربية.
بذرت في الدستور التونسي بذرة نموذج التسيير اللامركزي ومن طرف الإسلاميين أنفسهم دون أن يظهر ذلك في مراجعات فكرية صلب أطروحات الإسلام السياسي نفسها رغم القول بفصل الدعوي عن السياسي وهو قول بلا مضامين بعد، بشكل يشعر بأن لحزب الإسلام السياسي (النهضة) سرعتان واحدة تفكك الهيمنة المركزية للدولة على مفاصل الإدارة وأخرى تدافع بعد عن نموذج خلافة متخيل (طبقًا للخلافة الراشدة)، سرعتان تتناقضان واحدة تجذب إلى الإمام وأخرى تشد إلى نموذج مفوت.
هنا ينفتح مجال لبناء أطروحة حكم تحرر الإسلام السياسي من الاقتداء بنماذج بناها اليسار الأيديولوجي عبر تاريخه المستند إلى التجربة السوفيتية ويمنح فرصة اجتهاد في تاريخ الدولة الإسلامية الموضوع فوق النقد والمراجعة عند الإسلاميين، فهل الإسلاميون في مستوى هذا الاجتهاد الجذري؟
الربيع العربي أربك اليسار الأيديولوجي وهو التيار الأشد عجزًا عن تطوير أطروحاته الفكرية والسياسية (وهذا سر التحاقه بالأنظمة الساقطة في مصر وتونس والمغرب وسر مساندته الانقلابات في تركيا) وسيقضي رغم متانة التنظيم الحزبي على الإسلام السياسي بصيغته الإخوانية التي نشأت في معارضة الدولة المركزية (المقلدة للنموذج الغربي العلماني) ولم تتحرر من موضع المعارضة (وهذا سر فشلها في الحكم).
تطوير الإسلام السياسي يكون بوضع نهاية للفكرة القائلة بوجود تراث ديمقراطي (شوري) عربي والبدء ببناء تراث جديد يجتهد في أصول الإسلام ويراجع التاريخ السلطاني الغاشم (جنوح قيادات الدول الوطنية إلى الحكم الغاشم هو الذي مد في أنفاس أطروحة الإسلام السياسي الإخوانية)، حينها لن تكون هناك حاجة للحديث عن إسلام سياسي بل عن إدارة جديدة.
وقد كررنا في مقالات سابقة أن الإسلام السياسي ليس إلا خيال تحرر ثقافي مضطهد أمام نموذج المركزية الغربية ينتمي إلى حركات التحرر من الاستعمار لا إلى حركات بناء المستقبل في عالم متعدد الأقطاب ليس فيه مركز هيمنة وحيد.
في هذه اللحظة التاريخية المفصلية فإن كل ارتداد عن الحرية سيعيد تكريس وجود الإسلام السياسي ويؤبد معركته مع أطروحات العلمانية ويستعيد معركة لم يعد أحد يحتاج إلى المشاركة فيها، فالحرية قضت على اليسار الأيديولوجي وأفرغته من مضامينه الثورية المزيفة والحرية هي من يجبر الإسلام السياسي على تعديل أطروحاته أو الموت مثلما أنها الوحيدة الكفيلة بفتح أبواب الحرب على الفساد وتطوير الإدارة (الدولة) نحو اللامركزية التي تطلق يد الفاعلين الصغار في بناء نماذج الحكم الجديدة للقرن الواحد والعشرين.