ندخل الخريف ونحتفظ بحر الصيف ونختلف حول الأساسيات دوما. كأنما سنعيد اكتشاف العجلة لنسجل براءة اختراع سبق إليها غيرنا. لكنا نصر على إعادة التفكير في البديهيات والدوران خلفها كأننا زوار وثن لا يتفاعل. لقد أخرجتنا الثورة من سبات الدهر لكنا وجدنا أمامنا عشاق الغنم السريع فمن هم عبدة وهم الغنيمة في بلد لا يملك أن يقرر بناء مدرسة دون الرجوع إلى مؤسسات الإقراض الدولي.
كريستين لاقارد معلمة التلاميذ الأغبياء.
جاءتنا مديرة صندوق النقد الدولي وألقت أوامرها للتلاميذ الطيعين. كان من بعض هؤلاء التلاميذ من يطالب بإلغاء ديون البلد والتمرد على التبعية التاريخية التي رزح تحتها البلد منذ دفعه الهادي نويرة في مهوى الليبرالية المناولة. انتهى زمن التمرد وعاد زمن الخنوع والمعلمة تعرف تلاميذها. جلسوا حول الطاولة عاقلين هادئين وقالوا نعم يا معلمتي. قالت من عليائها مازالت طريق القبول بكم طويلة.
عليكم بتقليص الوظائف في القطاع العام. الدولة التي نريد لا يمكن أن تكون مشغلا. نحن لا نمنح قروضا لموظفين كسالى. عليكم برفع الدعم عن خبز الكسالى. عليهم أن يقوموا لتدبر أمرهم دون دعم. عليكم بالتخلي عن التعليم العام وخوصصة المدرسة وتدريب جهاز الآمن جيدا لمقاومة الإرهاب. عليكم بالسمع والطاعة. قالوا نعم يا معلمتي. ومن كان قادرا حول الطاولة أن يرفض؟
حول الطاولة لم يكن الشركاء أقرب إلى بعضهم من قربهم إلى كريستين. كانوا حول الطاولة أعداء يبيعون سرهم لها. هي تعرف وترفع الصوت وتمشط شعرها الثلجي. كريستين وضعت البلد على حافة الكومسيون المالي. الكومسيون في هذا البلد تاريخ يعبث العابثون بخزينته يفلسونها ويجلسون حول مائدة القناصل يبيعون أثاث البيت وربما ألحقوا به الأبناء.
إذا رفضوا سيخرجون إلى الشارع فيجدون نقابة تفرض شروطها بالزيادة في أجور القطاع العام. أو إغلاق المدرسة. النقابة وشركاء القطاع العام متفقون أن يختلفوا إلا في تخريب البلد. كلٌّ يخرب ما تطول يداه ويعلن مقاومة الإرهاب والبعض يحمل الورد باقات للشرطة الظافرة.
إنها حالة مثالية من انهيار الصف الوطني في مواجهة استحقاقات التبعية وآليتها وشروطها. كل المقرضين إذا لم يجدوا أمامهم جبهة وطنية تقدم مصلحة البلد على مصالحها الفئوية يفرضون شروطهم. هكذا كان في زمن الباي الذي أمضى معاهدة الخنوع عام 1881 وهكذا يجري الأمر الآن. وكريستين الفرنسية تعرف التاريخ جيدا وتتكلم بصوت واثق والقوم خانسون كفئران التجارب. قالت الثورة اقطعوا المشيمة ولو بعد حين فقال السياسيون العظماء مرحبا كريستين.
تغيير الأولويات الوطنية.
ثم نزلنا إلى الشارع ضد كريستين وغلمانها. قانون المصالحة ينقذ أصدقاء البنوك الدولية الذين خربوا البلد في عهد الدكتاتورية. كان يجب بعد إن استقر الأمر لحكومة منتخبة أن نقدم انتخاب المحكمة الدستورية على غيره من القضايا.وأن نشرع في تفكيك السلطة المركزية وننزل أحكام الدستور في الواقع. بتهيئة الأرضية القانونية للانتخابات البلدية وانتخاب المسؤولين الجهويين كما نص على ذلك الباب السابع من الدستور. لتنطلق عملية التنمية المحلية من أسفل أي من عند المعنيين بها والمستفيدين منها. وهي الحالة التي تهيئ فعلا للقضاء على تبعية البلد لكريستين وأخواتها ولو على المدى الطويل(البداية هي المهمة). فإذا نحن نخرج من ظل الدستور (عنوان فخرنا وتباهينا على العرب والعالم) لنقدم مصلحة المفسدين على مصلحة الوطن. تريد السلطة أن تجد لهم مخارج قانونية تحميهم وتحمي أموالهم بتجاوز الدستور وهيئته المنتخبة. الجميع تذكر كيف كان يستغل الدكتاتور. كُلُّ الدولة لحماية مصالح البعض ممن يمول الحزب الحاكم وينفق على متعة الحاشية . الحديث عن مصلحة الوطن هنا والآن يؤول على مساندة الإرهاب. حتى أن الشارع الذي نزل محتجا صار مسخرة في إعلام السلطة. غير أننا لا ينبغي أن ننفي أن بعض الشارع المحتج على المصالحة المغشوشة كان يخدم كريستين أيضا. فالفرقة هدية للأعداء.
العسل من ذيل الدبور.
ثلاث مظاهرات متلاحقة في زمن واحد في شارع واحد بشعارات واحدة ضد عدو واحد. لماذا لم تصر الثلاث واحدة؟.والناس ينتظرون العسل من ذيل الدبابير الحزبية . توجد هنا أيضا يد خفية لكريستين.حزب فرنسا الذي نشأ يطالب بإلحاق البلد بالمستعمر خرج إلى الشارع يطالب بكشف الفساد الذي زرعته فرنسا عبر توابعها.(فرنسا هنا رمز لقوة الاستعمار التي تحسن اختراق الصفوف وتشتيتها).كان المشهد كاريكاتوريا مثيرا للسخرية السوداء. شباب اليسار لم يكن قادرا على فك رقبته من قبضة حزب فرنسا. فسار في ظلال الرايات المشبوهة. وكان رفاقه خلفه يرفعون فقط راية الوطن ويعلون المهمات التكتيكية . خطوة القضاء على الفساد المحلي في مربعاته الصغيرة مقدم على بناء النظريات الكبرى في مقاومة الاستعمار والامبريالية. تماما كما قدم البعض بناء الأمة بالاعتماد على الممانع الأكبر. وجه آخر أو يد لكريستين. لا يمكن للبعض مقاومة الفساد المحلي ودولته مع شركاء الوطن إذا كانوا مختلفين عنهم في قياس حذاء بشار الممانع. فرقة وشقاق ووطن يعود إلى غيبوبة التاريخ بعد أن أيقظ العالم من غفوته. ثمة سياسيون في السلطة وفي المعارضة يحبون تقبيل حذاء البنك الدولي.
المزاد مفتوح يا رئيسة الصندوق ..
هؤلاء هم الذين مكنوا للدكتاتور.اسندوا دولته بالكذب وغطوا سرقاته بالمدح ونالوا من طاولته الفتات. وبقوا فتاتا تذروه رياح الأحقاد الصغيرة التي دفعت بعضهم ذات يوم إلى الذهاب إلى البرلمان الأوروبي ليطالب بقطع المعونات على حكومة بلده المنتخبة. ويطالب بحل المجلس التأسيسي. كيف يمكنه الآن أن يحترم الدستور؟ كيف يمكنه أن يلبي مطالب ثورة فرضت عليه التفكير في عاهاته الخلقية. استعادة منظومة الفساد والأكل من فضلاتها أهون عليه من أن ينقد تاريخه المغشوش بالشعارات الكذوبة.
والعامة تاهت في الطريق. أين مطالبها ؟ أين دستورها الذي وعدت به في الأرض لا في الكراسات. المشهد غامض أمامها والتلفزة تغشها حتى في نشرة الطقس الطبيعي. أولادها رهينة بيد النقابات. والوزير الذي لم يجد ثمن الطباشير للعودة المدرسية يعدهم بمسبح في كل مدرسة ومعهد. والرئيس الضامن للدولة يختفي خلف مستشاريه الذين يختصمون على السيارات الإدارية. وكريستين تملي شروطها والشارع الثوري يحسب المتظاهرين وظلهم ليرفع من عزيمته قليلا...
كان نبيذ الماغون معدلا على قلبك الثلجي يا كريستين لاقارد يا سيدة المال شكرا وافرا لمرورك بحديقة الدجاج خلف بيتك. لقد كان طولك فارها بين نساء القوم المحشوات بالبطاطا. واعتقد أن الرجال كانوا أقصر قامة.