دوي انفجارات يصل من داخل حزب النهضة، بعد أن وصل دوي من داخل النقابة. انفجارات صدى لانفجارات تسمع من داخل حزب النداء، فتصيب شظاياها كل مكونات المشهد السياسي. عراك الندائيين على السلطة جر الجميع إلى مستنقع، ويبدو أنه سيغرق البلد، فلا يتنفس إلا من تحت ركام.
ظهر القيادي النهضاوي سيد الفرجاني (رجل الاستخبارات الداخلية للحزب) في قناة نسمة الخاصة، ليتحدث عن تغول يوسف الشاهد، وتحوله إلى نسخة من ابن علي، خاصة بأسلوب استعمال الملفات والتهديد، ما يعني ضرورة العودة إلى التوافق مع الرئيس الباجي؛ حتى لا يزيد الشاهد في تغوّله.
هذا الظهور جاء بعد إعلان قطيعة بين الرئيس الباجي ورئيس حزب النهضة، الأستاذ الغنوشي، وهي قطيعة أخبر عنها الرئيس في آخر ظهور إعلامي له. بات جليا أنه لم يعد حزب النهضة على رأي واحد بخصوص أزمة الحكم؛ لقد انتقلت إليهم أزمة النداء فهم بين موقفين.
تمرد الغنوشي في النقطة 64
ليس حزب النهضة من أوحى إلى عائلة الرئيس باستخلاف ابنها في السلطة بعد أبيه. كان مطلوبا من حزب النهضة أن يوافق على ذلك، ويعلن بيعة صامتة، وكان ذلك يعني المرور بإقالة رئيس الحكومة وتعيين آخر في زمن قصير؛ قد يمنع إجراء انتخابات في موعدها، فضلا عن أن الإقالة والتعيين وتكوين حكومة يضاعف دون شك من الأزمة الاقتصادية المستفحلة، ويحط من سمعة البلد وقيمته في السوق، وفي الجوار السياسي والإقليمي.
هنا أعلن رئيس حزب النهضة تمرده على خيار التوريث.. من هنا بدأت القطيعة مع الرئيس وأسرته، ومن هنا فهم أن حزب النهضة قد تحالف مع رئيس الحكومة، ومن هنا بدأ الحديث عن تكوين توافق "تونس 2" بين نداء الشاهد والنهضة، وهنا ظهر سيد الفرجاني ليقول بتغول الشاهد ليؤكد أن تمرد الغنوشي لم يكن موقف كل حزب النهضة، بل موقف شق الغنوشي ضد شق آخر ليست له معالم محددة ولكنه موجود.. هنا تبين أن الأزمة السياسية لم تعد داخل النداء، بل وصل صداها إلى النهضة فشق موقفها، وهي الآن ترمم ما يمكن ترميمه.
هل نعود إلى الرئيس نجامله في موقفه ونقبل التوريث (لأن الرئيس لم يعدل موقفه)؟ أم نتمسك بالموقف الرسمي المعلن مع الاستقرار السياسي لضمان الانتخابات، خاصة وقد قطع الرئيس على نفسه وعدا بإنجازها في موعدها ما دام حيا؟ هل نفاوض مع الشاهد على ما بعد 2019 منذ الآن ونلزمه حدوده؟
ولكن بأي وسيلة إذا كان قد بدأ بناء حزبه السياسي من كوادر التجمع المنحل، ومن كل الطيف السياسي الذي مارس الاستئصال في التسعينيات؟
الأزمة مست الجميع
هكذا، وبعد انقسام في موقف النقابة بين التفاوض (الشق العاشوري) وبين التصعيد (شق اليسار النقابي)، نجد أن حزب النهضة المتماسك (فيما نعلم) قد ارتج عليه، وصار له موقفان. فإلى أين ستؤدي الأزمة بالبلد؟
هل نشهد ميلاد حزب رئيس الحكومة ضد حزب ابن الرئيس وانخراط مكونات المشهد في هذا الحزب أو ذاك؟ يبدو هذا ممكنا أو محتملا، لكن لا بد من قياس وزن (حجم) مكونات المشهد وقدرتها على التأثير لإنهاء الانقسام أو تذويبه.
ليس من السهل الآن أن يتحول حزب النهضة أو النقابة إلى ورقة تابعة لشق من شقوق النداء، رغم أن النقابة وحزب النهضة يتخذان موقفين مختلفين في الأزمة. نحن بعيدون جدا عن الوضع الذي لعبت فيه النقابة دور وسيط بين فرقاء في حوار وطني أدى إلى حل أزمة حكم. ليس هذا أوان أو موضع تقييم ذلك الحوار ومخرجاته، لكن الأزمة الحالية هي بنت ذلك الحوار المغشوش. كما أننا بعيدون جدا عن المرحلة التي كان فيها حزب النهضة مغلوبا على أمره نتيجة الاغتيالات السياسية، وترتجف مفاصله أمام مجزرة رابعة.
لقد مرت مياه كثيرة تحت الجسور، لكن وجب الإقرار بأن صراع مكونات حزب النداء (وريث التجمع) تؤدي بالبلاد إلى انقسام حاد منذر بهلاك، ولا واسطة بين شقوقه من داخل البلاد أو خارجها. شقوق الحزب لا تطلب وسطاء، بل تطلب حلفاء خاضعين. شق ابن الرئيس يطلب من النقابة أن تكون عصاه الغليظة ضد رئيس الحكومة، وشق الشاهد يطلب من النهضة السمع والطاعة. الموقف الثالث غير موجود.. الساحة السياسية التونسية لم تنتج هذا الموقف أبدا.
العنقاء أو المعجزة
في معركة النداء الداخلية التي تخرب البلد نجنح إلى الخيال، وقد أعجز الواقع القراءة مع وعي كامل بأن القوى السياسية التونسية أقصر من المعجزات وأضيق خيالا. هذه بعض الخيالات:
أن تعلن القوتان السياسيتان، النقابة (قوة سياسية نعم) وحزب النهضة، موقفا موحدا ضد صراع الشقوق وتنسحب خارجه.. مثل هذا الإعلان سيكون كفيلا بإرجاع المتصارعين إلى رشدهم أو القضاء عليهما معا؛ باعتبارهم أقل من حزب حاكم وأقرب إلى عصابات مافيا.
إن ما هيج جشع الشقوق ولهفتها على الحكم؛ هو أنها وجدت سندا من هاتين القوتين، مستثمرة في صراع قديم زرعت بذوره منذ أربعين عاما، وها هي تأكل من ثمره بعد. لا داعي للاسترسال في الأحلام، فهي ليست من التحليل في شيء.. هذه المعجزة لن تقع أبدا.
ما كان للمنظومة أن تعود إلى الحكم لولا الصراع بين اليسار والإسلاميين، وما كان لحافظ ابن الرئيس أن يطمع في أكثر من واردات محل الخمور الذي ورثه عن أبيه، لكنه صار يلقي بأوامره إلى قيادة النقابة (نقابة حشاد) والنقابة تستجيب. فحافظ أفضل لدى يسار النقابة من الغنوشي، وهو يعرف ذلك ويستثمر في الحقد.
وما كان للشاهد أن يكون خارج مكتب خبير الزراعات المهجنة؛ لولا أن لحظة صراع اليسار مع الإسلاميين قد مكنت الباجي من رقاب الطرفين يختار منهما من يشاء لحلف حكم، وهما يتزاحمان على بابه حتى انتهى بهما الأمر إلى الشاهد حاكما يتغوّل. نحن نعود إلى نقطة صفر، لنختم بإعادة إبراز وجه المأساة التونسية.
المأساة التونسية (نعم مأساة) ليست في صراع شقوق حزب النداء على السلطة، بل في صراع مكونات المعارضة القديمة مع بعضها لصالح المنظومة. صراعات حزب النداء هي نتيجة لصراعات اليسار (أو ما يسمى بتيار الحداثة) ضد الإسلاميين. إنهما - كما يقال في تونس - الحر (ريح الشهيلي) الذي ينضج الغلال، فتأكلها المنظومة هنيئا مريئا.
ليس من التشاؤم في شيء، لكنها الواقعية المؤذية.. نقابة فرحات حشاد (التي صارت نقابة اليسار وحدهم) تقف مع توريث الحكم لرجل لا يحسن كتابة اسمه؛ نكاية في خصمهم الأيديولوجي.
انتقال الأزمة السياسية من داخل النداء إلى داخل حزب النهضة وظهورها للعلن يسعد خصومهم، لذلك سيعملون على تعميق أزمة النداء لتتعمق بالتبعية أزمة النهضة. سيكون هناك استقطاب أشد حدة في قادم الأيام. هناك كثيرون يفكرون بمنطق بسيط وواضح: ما دامت هناك أزمة في حزب النهضة، فلندفع إلى المزيد من التأزيم. بعض المآسي تفتح على عدم مطلق.