دخلت تونس انتخابات 2019 قبل أوانها، ويبدو هذا مثيرًا للتفاؤل، لكن هذا الدخول المبكر مثير للإحباط والتشاؤم، فالخطاب الانتخابي الذي نسمع ونرى يستعيد نفس خطاب 2011 و2014 بكل حيله وجمله وصوره، وخلفيات العجز التي وجهت خطابًا كثيرًا لا يفلح في البناء لنفسه ولوطنه بقدر ما يفلح في تهديم وجود غيره ليقف على خرائبه كالبوم، هذا الخطاب يعتمد منهجًا واضحًا لتحقيق هدف لا شك فيه (منع حزب النهضة من الوصول إلى الحكم أو في أسوأ الاحتمالات التقليل من حظوظه إلى أدنى حد ممكن)، لكن ليس باقتراح بدائل حكم أفضل منه بل بتشويه الحزب لدى الجمهور الواسع وبكم من الأكاذيب والاختلاق المنفر ولا يهم إن كانت تلك الأكاذيب مستعادة من انتخابات سابقة وبنفس الوسائل غير الديمقراطية.
ليست هناك مفاجأة كبرى في هذا الخطاب لذلك سنعيد بدورنا توضيح المحاور والحيل المستعادة.
الخطة اتضحت قبل الموعد الانتخابي بزمن طويل
المشاركة من موقع ثانوي في حكومات ما بعد 2014 سمحت لحزب النهضة باقتصاد جهده لحماية بنيان الحزب من التفتت ثم إعادة بناء الصفوف بعد تجربة الترويكا (2011-2013)، وقد أظهرت النتائج في الانتخابات البلدية هذا المعطى التاريخي، وهو المعطى الذي جعل منافسي الحزب يرتبكون ويسارعون إلى استعادة الهدف والوسائل التي خاضوا بها الانتخابات السابقة.
تعتمد هذه الخطة الآن على إظهار الحزب أولاً بمظهر الحزب الإرهابي (الذي يملك تنظيمًا سريًا مسلحًا)، وثانيًا بمظهر عصابة اللصوص التي تستولي على المال العام باسم التعويضات عن المعاناة زمن بن علي وسيتم لاحقًا (ثالثًا) قبيل الانتخابات بقليل إظهار الحزب بمظهر الحزب الديني الرجعي المعادي لحقوق الإنسان عامة والمرأة بالخصوص.
يتولى حملة التشويه الآن فريقان رئيسيان هم فلول التجمع (حزب بن علي) وبعض فصائل اليسار (الوطد) خاصة، بينما يقف الطيف الديمقراطي متفرجًا على سير المعركة ينتظر فيئها دون تميز بموقف ديمقراطي جلي يمكن اعتماده كموقف حكم بين الفريقين.
حكاية التنظيم السري
يتذكر الذين عاشوا تجربة تصفية الإسلاميين زمن بن علي (بداية من العام 1990) أن وزير داخلية بن علي عبد القلال ألف ملفًا من العدم لتنظيم سري سينقلب على الديمقراطية، وتمت المحاكمات على هذا الأساس وبعد الثورة اعترف جميع رجال بن علي بالكذبة واعتذر بعضهم بينما اختفى البعض من المشهد السياسي.
بعد الثورة وبعد الاغتيالات السياسية لم يتحدث أحد عن تنظيم سري للنهضة، لكن ساد الحديث عن علاقة النهضة بالتنظيمات الإرهابية، ولم يتم إثبات ذلك بدليل (بل إن الخسارات السياسية للنهضة من العمل الإرهابي كانت أكبر دليل على عدم قيام هذا الرابط) فسكت الجميع، لكن فجأة عاد الملف إلى السطح وبنفس الأسلوب وبنفس الأصوات تقريبًا (زبانية بن علي).
المريب في الأمر حتى الآن أن القائلين بوجود التنظيم يتهربون من التقدم للقضاء بحجج وأدلة، لقد رفعوا دعوى أمام المحكمة العسكرية لكن المحكمة العسكرية رفضت النظر فيه لعدم الاختصاص، فالمتهمون مدنيون والجرم مدني وقانون الإرهاب يكفي للنظر أمام القضاء المدني، والنيابة العمومية فتحت دعوى تحقيق بعد الضجة الإعلامية التي أعلن خلالها وجود هذا التنظيم، لكن مالكي الملف والحجج يرفضون التظلم أمام المحكمة المدنية بل اكتفوا باتهام القضاء والتقليل من مصداقيته، وهم يطوفون البلاد طولاً وعرضًا للتكلم أمام الإعلام فقط بما يجعل عملهم مجرد عملية تشويه سياسي غير قائمة على رغبة حقيقة في حسم الملف.
المهم هنا الأثر الدعائي، أي بناء صورة مخيفة لحزب النهضة الذي يظهر للناس بوجه مدني ديمقراطي بينما يخفي أسلحته السرية الانقلابية وهي صورة لها تأثير على الصندوق لاحقًا، وهنا تتضح الغاية والوسيلة.
حزب النهابين
ضمن مسار العدالة الانتقالية أنشئ صندوق الكرامة ورد الاعتبار بنص صريح وخصص باب في الميزانية لمساهمة الدولة في الصندوق، وحدد قانون العدالة الانتقالية أبواب تمويل الصندوق من الهبات والعطايا (من الأمم المتحدة خاصة)، ولم يفتح قانون المالية لسنة 2019 اعتمادًا لتمويل الصندوق، لكن الحملة انطلقت منذ أيام وستسمر إلى حين الموعد الانتخابي لتصوير حزب النهضة كحزب ينهب المال العام باسم التعويض.
يقوم خطاب التشويه على جمل محددة ودقيقة أولها أن النهضويين وحدهم من يطالب بالتعويض في حين أن قائمة المتضررين تضم كل الفصائل السياسية التي تعرضت للظلم والاضطهاد منذ سنة 1955، وثانيها أن النهضويين (وقد أفرزوا) لم يناضلوا من أجل تونس بل من أجل أفكارهم الخاصة المعادية لتونس (حزب إرهابي معادٍ للنمط التونسي) لذلك لا حق لهم، وثالثها أن النهضويين تمتعوا بالسلطة وهذا يكفيهم كتعويض عما أصابهم (قليل من ينتبه إلى هذا التناقض في الحجج).
ينسى من يروج هذا الخطاب أو يتغافل أن جبر الضرر نظم بقانون مطابق للدستور والتراجع عنه يقتضي العودة إلى إلغاء النصوص أولاً، ولأن هذا غير ممكن لمن لم يملك أبدًا أغلبية انتخابية لذلك فإن التشويه يصبح خطة مثمرة في أفق انتخابي، بل الخطة الوحيدة المتاحة، وهكذا تكتمل الصورة قبل الوصول إلى الصندوق؛ النهضة حزب إرهابي مسلح يتخفى وراء الديمقراطية ليستولى على المال العام، وهذا كافٍ لإفشاله داخليًا، (لا يهم هنا احترام الرأي العام الذي يساق بماكينة إعلامية متمكنة ومدربة وليس للنهضة وسيلة للرد عليها) حتى إذا اقترب الموعد الانتخابي عاد خطاب تحطيم الصورة الخارجية للحزب بقانون الميراث.
الحزب المعادي للمرأة
مبادرة رئيس الدولة (وهو قائد أركسترا التشويه الآن) لتعديل قانون المواريث موجودة الآن على رفوف البرلمان وقد تأجل النظر فيها لأولوية قانون الموازنة للعام 2019 وستعود في مفتتح السنة.
لقد كشف حزب النهضة عن رغبته في بناء صورة الحزب المدني أمام القوى الدولية الرافضة لوجود أحزاب الإسلام السياسي في الحكم (تحول هذا الأمر إلى حق لا يجادل فيه للتحكم الخارجي في المشهد الداخلي في بلدان الربيع العربي وبتواطؤ مطلق من النخب العربية المعادية للإسلاميين)، وقد تحول هذا الكشف إلى نقطة ضعف للحزب يسهل الضغط عليها لتحطيم صورته الخارجية وملف حقوق المرأة ملف حساس لدى محتكري صفة المدنية في الخارج والداخل.
غير مهم هنا ما أثبته حزب النهضة من قبول المناصفة الانتخابية وما قدمه من وجوه نسائية للحكم، فكل هذا يصبح تمويهًا للصورة الحقيقية للحزب الديني الرجعي المعادي للحقوق والحريات الذي يملك تنظيمًا سريًا يموله من المال العام، هكذا تكتمل صورة الحزب أمام الناخب في 2019، فكيف ستكون نتائج الصندوق؟
ليس لحزب النهضة خطة بديلة للرد
ليس للنهضة جهاز إعلامي كفء للرد على هذه الدعاية الانتخابية، فلقد فشل الحزب في بناء ماكينة إعلامية واكتفى بالفضاء الافتراضي وهو فضاء لا يصل مداه إلى القاعدة الانتخابية الأمية التي يؤثر عليها خطاب التشويه، وليس للحزب شجاعة تحريك شارعه المنظم وهو يتحرك في الشارع بحذر شديد مدعيًا أن الشوارع المتقابلة تضر ولا تنفع (ليس هناك شارع مقابل لشارع النهضة).
يجتنب حزب النهضة التظلم لدى القضاء بخصوص الاتهامات بتكوين تنظيم سري رغم أن من يتهمها يسميها بالاسم ولا يقدم حججه بعد، وليس للنهضة أصدقاء في الداخل يقفون معه فيما يتعرض له من دعاية غير مسنودة بقانون أو حجة، بل إن الطيف الديمقراطي يقف على الحياد وينتظر النتائج، فهو مستفيد من إضعاف حزب النهضة أمام الصندوق، أما أصدقاء الخارج فلا دليل على وجودهم إلا في أوهام النهضويين.
يبدو وهذه قناعة تترسخ أن الحزب يستطيب وضع الضحية ويعيش منه لضم شتاته ومنع النقد داخله واستدرار العطف الانتخابي من حوله، وهي خطة قد لا تذهب به بعيدًا.
الناخب المسكين أمام الصندوق البائس
هذه خلاصة المشهد الانتخابي لسنة 2019 تعلن عن نفسها قبل سنة من الموعد، سيجد الكثيرون أنفسهم بلا خيار انتخابي، وسيتم الإلحاح على صورة النهضة كما فصلت أعلاه بحيث لن تصبح خيارًا انتخابيًا إلا لقاعدتها الثابتة، أما أن تتدبر أنصارًا جددًا فمستبعد أو مستحيل.
أما مشوهو النهضة ومنتظرو خساراتها فلا بديل لهم خارج خطاب التحطيم وهو خطاب يرعب الناخب المحتمل للنهضة لكنه لا يحرضه على منح صوته إلى أعدائها، فهم لا يقدمون له بديلاً وقد ملهم وسخر منهم أكثر مما فقد ثقته في النهضة، لذلك فسيكون الناخب معرضًا عن المشاركة ويظل الصندوق يوم الانتخاب بائسًا.
تفقير الصندوق وإفقاده معناه وقوته هو النتيجة، ستكون كل حكومة قادمة أضعف من أن تقف في مواجهة المعضلات الاقتصادية المتفاقمة، هذه المعضلات هي البرنامج الانتخابي الغائب في كل خطاب وهنا سنعدد الخسارات.