اطلعت على مقال المؤرخ التونسي الأستاذ خالد عبيد المنشور بموقع كابتاليس التونسي تحت عنوان "التمرد الناعم"، بتاريخ 13 حزيران/ يونيو 2018، والذي أراد من خلاله تبيان تحايل السيد راشد الغنوشي على يوسف الشاهد واستعماله غطاء سياسيا لخطة أسلمة المجتمع التونسي. وسأحاول مناقشة المقال قدر الاستطاعة وأنا موقن سلفا أن السيد عبيد لن ينزل من علياء المؤرخ للاطلاع على النقاش، ولكننا نشكر له رغم ذلك كِبْرَه التعليمي الذي كشف لنا خواء المؤرخ البورقيبي في القرن الحادي والعشرين.
المنطلق الخاطئ يؤدي إلى نتائج خاطئة
انطلق الأستاذ خالد عبيد، والذي سأشير إليه بالمؤرخ تخفيفا للمقال، من مقارنة خاطئة ثم بنى عليها بقية الخيال السياسي الذي حكم المقال، فجاءت أفكاره منسجمة مع منطلقاته، ولكنها بعيدة كل البعد عن الواقع التونسي كما نعيشه لا كما يتخيله المؤرخ الذي لم نعرف له خيالا روائيا؛ نحن الذين نعرف كيف نركب الحكايات ونرمي المعني في باطن الجمل.
المقارنة الخاطئة هي أن يوسف الشاهد يُستعمل الآن في خطة المهدي بزركان، بما يجعل راشد الغنوشي هو خميني تونس، أي يطبق - كما الخميني - خطة التخفي خلف واجهة صفيقة حتى يتمكن من الظهور بوجهه الحقيقي البشع طبعا.
الخطأ الفاحش الأول هو أن ثورة تونس ليست الثورة الإيرانية. تونس لم تقم بثورة دينية بخلفية مذهبية، ولم يكن لها من قيادة إلا عفوية الشارع المنتفض ضد الفساد والاستبداد، ولم تقم بتصفية معارضي الثورة في الساحات، ولم تنصب المشانق، وراشد الغنوشي لم يقد هذه الثورة، والبعض ما زال يكرر أن حزبه لم يشارك فيها، وهذا موضوع آخر يسقط كل أطروحة المؤرخ.
هذا في المنطلق، أما في المآلات فإن الثورة التونسية، وإن اتجهت إلى تأسيس جمهورية جديدة بدستور جديد (وليس باقتراح من الغنوشي ولا بأمر منه)، فإنها وجدت صيغا سياسية لعدم الحسم الدموي والقضائي مع الذين ثار عليهم الناس، وهذا أمر يقلل من كل زعامة. والغريب أن الغنوشي قاد عملية تجنيب البلاد الحسم الثوري بمنعه من داخل المجلس التأسيسي لقانون تصفية التجمع، بما يضعه في الموقع النقيض من الخميني منذ البداية، ولا يضطره لاحقا للاختفاء خلف واجهة للقيام بما لم يقم به وهو يملك أن يفعل في موجة الثورة.
غني عن القول هنا أن دفع هذه المقارنة المغالطة إلى مداها تجعل من نظام ابن علي نظام شاه إيران، ومخابرات ابن علي التي لم تؤذ المؤرخ هي السافاك الإيراني.
تحليل التاريخ العام بمعلومة سرية وخاصة
يبني المؤرخ روايته على معلومة خاصة حصل عليها بطرق خاصة مفادها أن الغنوشي أراد استعمال مهدي بازركان أول قبل يوسف الشاهد هو السيد أحمد المستيري، فأهان الرجل وتاريخه إهانة بعيدة عن كل لياقة أخلاقية. السيد المستيري - لمن لا يعرفه - سياسي نظيف، قاد عملية تمرد من داخل حزب الدستور في مؤتمر المنستير سنة 1971، واستقل عنه بمجموعة أسست الديمقراطية التونسية هي مجموعة الأحرار التي صارت أول حزب معارض (حركة الديمقراطيين الاشتراكيين ) والتي لا تزال الساحة التونسية تتحرك داخل أدبياتها.
وقد كانت له مع الغنوشي مودة وتقدير كبيران لا يمكن أن تحوله إلى "شخشيخة" عند الغنوشي. ذلك التقدير المتبادل بين الرجلين جعل الغنوشي ينحاز وحزبه غير القانوني سنة 1981 إلى المستيري؛ ويمنحه تصويتا مطلقا هدد به عرش حزب الدستور وبورقيبة ذاته، حتى تم تزييف النتائج على يد حزب الدستور، وقد اعترف بذلك على شاشة الجزيرة السيد الباجي قائد السبسي، وتكرر الأمر تقريبا في انتخابات 1989 التي زيفت بدورها.
وقد اطلعنا على مذكرات السيد أحمد المستيري، فلم يشر فيها ولو بجملة واحدة إلى أنه تلقى عرضا ليكون واجهة لانقلاب عسكري كانت حركة النهضة (الاتجاه الإسلامي) تخطط له سنة 1987. وقد تحدثت كل الشخصيات السياسية في زمن بورقيبة، بمن فيها وزراء داخلية مطلعون على كل الأخبار، فلم يشر أي منهم إلى هذه المعلومة التي تفرد بها المؤرخ ومن مصدر لم يكشف عنه.
وإذا كان الغنوشي قد فكر في ذلك أو سعى فيه، فإن ذلك يحسب له لا عليه؛ لأنه كان سيضع على رأس الدولة رجلا محترما ومقبولا لدى كل التونسيين بلا استثناء، إلا البورقيبيين الذين لم يغفروا للمستيري تأسيس خطاب ديمقراطي متعدد في تونس، ولو فعلها الغنوشي لكان جنب البلاد ربع قرن من حكم الفساد والإفساد الذي صنع أمثال المؤرخ.
أنا لا أعلّم المؤرخ مهنته، لكن كتابة التاريخ بالاستناد على معلومة خاصة وغير منشورة يفقد الكلام المبني عليها كل مصداقية علمية، وعليه لن نسلم للمؤرخ بأن أحمد المستيري كان يوما ما بزركان للنهضة، ولا شيء فيه يؤهله لدور مماثل بما ينزّه الغنوشي عن هلوسات المؤرخ. وهكذا تسقط كل أطروحة شيطنة الغنوشي الانقلابي الذي يتخفى وراء كل كومبارس ليؤسلم المجتمع. يمكن أن نقف هنا ونهنئ الغنوشي بفصاحة خصومه، فالأطروحة منذ بدايتها مضروبة في العمق، ولكن ما زالت في المقال مغالطات أخرى سنتدرج معها.
إهانة الباجي في سياق شيطنة الغنوشي
في سياق بحث الغنوشي عن كومبارس، حط المؤرخ من قدر رئيس الدولة وهو من فريقه السياسي. فقد صوره كشخص غافل (يجري الماء تحت ساقيه) وهو لا يعلم. فالشاهد ابن روحي للباجي، وهو من جاء به، لكن انقلب عليه وتحالف مع الغنوشي ضده، وهذا يجعل الباجي السياسي المحنك جاهلا بمعادن رجاله كما لو أنه بورقيبة في آخر أيامه يعين في الصباح ويقيل في المساء.
إنه ينفي عنه كل الحنكة السياسية التي كانت رصيده في 2011 و2014 وفي تأسيس النداء وقيادة الدولة. وفي سياق تشكيك الباجي في إخلاص الغنوشي له، ظهر الغنوشي ثعلبا غدارا والباجي "خروفا" طيبا. ولو كان أحد يريد إهانة سياسي في تجربة الباجي لما وجد أفضل من هذا الموضع الذي وضعه فيه مؤرخه الجمهوري.
إن القول بأن الشاهد قلب ظهر المجن للباجي يهرب من مواجهة ارتدادات نتائج الانتخابات البلدية التي آلمت الباجي كثيرا نتيجة تراجع رصيد حزبه، وهي مسؤولية نجله قبل مسؤولية الشاهد، ولذلك لا يمكن تخيل رفض الباجي لتمرد الشاهد كما لو أنه غدر به وهو غافل.
لقد كان الباجي يعمل على رفع مكانة الحزب في أفق انتخابات 2019، وكان قد وضع ثقته في ابنه وفي فريقه، واستبعد بقوة كل المناوئين له، خاصة من وجوه اليسار التي ساهمت في تشكيل الحزب وأرادت ركوبه لمصالحها الأيديولوجية المعروفة. فانكشف أن الابن ليس بكفاءة أبيه، ولذلك وافق أخيرا على استبعاده، دافعا الشاهد إلى موقع متقدم ليرمم ما يمكن ترميمه.
وهنا يظهر الغنوشي غير ذي تأثير على موقع الشاهد الحالي إلا أن يكون متوافقا مع الباجي، وأن التحالف بينهما لم يكن تحالف ثعلب مع خروف، بل تحالف مصلحة وطنية قام المؤرخ بالطعن فيها فسقط في قراءة غير تاريخية.
لقد غيّب المؤرخ معطى مهما؛ هو حرص الغنوشي على عدم الحسم في مفاوضات وثيقة "قرطاج 2"، وخاصة النقطة 64، وحرص على إعادة الملف إلى الرئيس لتكون له الكلمة الفصل، وقد فصل بما هو من صلاحياته والتي وضعها الغنوشي قبل مصلحته الحزبية. قام الغنوشي هنا بما لم يقم به المؤرخ. لقد أحسن تقدير رئيس الدولة، وهو في موقع ضعف وكان بإمكانه الإجهاز عليه.
الغنوشي غراندايزر
صورة البطل الآلي الخارق الذي كان يبث في مرحلة مراهقة المؤرخ لا تزال عالقة بذهنه، فأسقطها على الغنوشي. فالغنوشي من القوة بحيث عبث برئيس الدولة ومنعه من تغيير الحكومة، والغنوشي استعمل ابن الرئيس لتفكيك النداء ثم رماه كما ترمى قشرة بطيخة، ثم التفت إلى الشاهد فرفعه إلى رئيس دولة قادم، ثم - وبحسب المؤرخ - سيرميه كما رمى البقية ليمر هو إلى سدة الحكم.
ما هي الخوارق الباقية التي سيقوم بها الغنوشي؟ لا ندري، لكن تضخيمه ينقذ المؤرخ المختص في التاريخ السياسي من الإجابة على سؤال مهم ومركزي في ما يجري الآن: لماذا أفلح الغنوشي في بناء حزب قوي ومتماسك ويربح الانتخابات، رغم أنه فشل في الحكم ذات يوم؟
إن الشروع في البحث عن إجابة لهذا السؤال تُغيّر مركز اهتمام المؤرخ، وتدفعه إلى نقد جربة حزب النداء ونقد شخصياته المؤسسة ونقد أداور مثقفيه بدءا بالمؤرخ نفسه. لماذا نجح الغنوشي حيث فشل النداء؟ المؤرخ يحيل فشل النداء إلى قوة الغنوشي.. هل الغنوشي بهذه القوة؟ من أين استمدها؟ كأنني أسمع هنا تبريرات معلق رياضي يتحدث عن العبرة بالمشاركة، ولا يمكنني إلا أن أتذكر التي خانها ذراعها فزعمت أنها مسحورة.
لماذا يتم تضخيم دور الغنوشي؟ إن ذلك مفيد في تحذير صف "الحداثة" من خطر داهم، لكن كل تخويف ينتج خوفا فعليا، ومن يتلقون هذا الخطاب، وإن كتب بالفرنسية، ليس من يريدهم المؤرخ فقط، بل عامة الناس، ومن عامة الناس من يحب القوي ويركن إليه لحمايته. وأعتقد أن المؤرخ يغفل أن التخويف من الغنوشي دفع ويدفع كثيرين إلى الاحتماء به لأنه قوي وقادر على الحماية، ولا نخال الغنوشي إلا مرحبا بهذا لتخويف الذي يحوله إلى منقذ.
الوزير الوطني الذي من الساحل
إن إقالة الوزير براهم تخسر الشاهد ولاء منطقة مهمة، وهي بالطبع ليست الشمال الغربي، بل الساحل، منبت الوزير المقال. إن المؤرخ هنا يسقط سقوطا أخلاقيا وسياسيا لا حضيض بعده، فهو ليس مهددا للشاهد بتمرد الساحل عليه فحسب، بل هو يبني الحكم الجمهوري على تقسيم مناطق النفوذ وتوزيع المواقع بحسب الجهة لا بحسب الكفاءة (ثمة طعنة خفية هنا في ولاء ووطنية أهل الساحل، فكأنهم جميعا واقفون وراء السيد براهم من أجل الفوز بالسلطة).
الصورة كما تظهر من مقال المؤرخ: الساحل (السياسي) قام بزرع وزير في الداخلية ليحكم من خلاله، وليقضي بأسلوب أمني (على طريقة ابن علي طبعا) على النهضة المرفوضة من ساكنة الساحل.
إن هذه الصورة تجعل كل الساحل متآمرا، لا على الشاهد وحكومته فحسب، بل على كل تونس، بوزارة الداخلية. إذ يصير أمن التونسيين ملك جهة واحدة؛ تضغط به من أجل مكاسبها في مجالات أخرى. إنها ليست أقل من تهمة بوصم جهة الساحل بالإرهاب.
وفوق ذلك، يتعمد المؤرخ إغفال أمر مهم لأنه يفسد عليه الصورة: الساحل صوّت بنسب كبيرة لحزب النهضة في كل استحقاق انتخابي، والأرقام تقول ذلك وليس نوايا المؤرخ، بما يجعل الساحل جمهوريا لا ساحليا، ويحشر المؤرخ في أيديولوجيا جهوية بغيضة يبدو أنه ورثها من بورقيبة الذي يتصدى للدفاع عنه في كل منبر.
مرة أخرى، يقدم المؤرخ للغنوشي خدمة مجانية، فهو السياسي القادم من الجنوب يدعم رئيس حكومة من العاصمة متجاوزا الجهويات، ويُسْقِط (إن فعل) وزيرا وصل بالجهويات ليهدد أمن تونس. ماذا يريد السياسي غير مؤرخ يمهد له الطريق؟
لكن أبعد من ذلك، لا يرى المؤرخ السياسي غضاضة في تشريع الحكم بالولاء للجهة لا بالولاء للوطن، وهنا سقوط لا يمكن تأويله إلا بالعمى السياسي الذي يفقد المؤرخ كل سمعته العلمية، ويحوله بوقا حزبيا مثل الموقع الذي نشر به.
الشاهد سيئ لكن من البديل؟
مدار المقال ترذيل يوسف الشاهد، فلم يترك المؤرخ وصما إلا وصمه به.. من الغباء والجهل بالسياسة، إلى ضعف الشخصية إلى الغرور الأحمق. ليكن كذلك، لكن من بديله في الظرفية المضطربة الراهنة؟ هل هو حافظ قائد السبسي؟ لقد أنكر الأب ابنه لغبائه، فعلى من يدافع المؤرخ؟
لا يقدم المؤرخ حلولا، بل يقف عند الطعن في الموجود، ولذلك لا يخرج عمله عن أحد معنيين: إما كتابة مأجورة لجهة تملك أن تدفع، أو انحياز أيديولوجي يستعيد تقسيم التونسيين إلى حداثيين ورجعيين. وهنا لا نجد للمؤرخ أي سبق معرفي يمكن أن يرفع من قيمة مقاله معرفيا وسياسيا. لقد فات القطار كل القائلين بهذا التقسيم.
لقد نجا الغنوشي من هذا التقسيم، وفرض مكانة لحزبه في المشهد السياسي المحلي والدولي، وصار برغم الإقصاء حجة استقرار في البلد، وربما حجة الاستقرار الوحيدة، ونرجح أن المؤرخ يكتب تحت وطأة الشعور بالقهر من هذا الاختراق النهضاوي الذي يشعره الآن بأنه ينحدر إلى شخص مضمون الوجود بالغنوشي؛ لا شخص يتفضل على الغنوشي بالأوكسجين.
مقال من زمن مضى ليس الشاهد فيه إلا ذريعة وليس بزركان، وهذا ليس إلا وهما متخلدا بعقل المؤرخ من بقايا كوابيس خطاب الإقصاء الثمانيني. وعلى كل حال، فإن الخميني الشيطان الذي استعمل بزركان هو الذي صنع دولة تمارس الممانعة في سوريا، فتلقى المؤرخ هناك يسند نظام الأسد. فلولا بزركان ما كانت الممانعة، والأمور بخواتمها، والمؤرخ كبير ويعرف.