عودة جامعية باهتة

Photo

الجامعة التونسية تفتح أبوابها لسنة جديدة ولكنها سنة عادية ما لم يحدث حدث معجز يقفز بها في ترتيب الجامعات العالمية لتصير من جامعات النخبة ويصير لشهادتها سوق عالمية ولخريجها سمعة الخبراء ولنوابغها صفة المفكرين والقادة.

الدروس الفقيرة

سأقف أمام طلبتي لسنة أخرى لأقدم درسا لا يمكن الفكاك منه فهو مفتاح المادة التي تقوم عليها الإجازة في علم الاجتماع ولكني لن أجد إجابة تشفي غليل طالب يسألني ماذا أفعل في القرن الواحد والعشرين بدرس أوجست كونت؟ ولأحيط السائل علما بأسس التفكير الوضعي وما تبعه من تأسيس لعلم الاجتماعي وجب أن أجد زمنا كافيا يؤطر الفكرة والمفكر والمرحلة التي كتب فيها لكني أقسّط الحصص بين ابن خلدون وكونت وسان سيمون وأمهد درس دوركهايم ودرس ماكس فيبر وماركس فإذا السداسية قد انقضت ولم أشف غليل السائل ولا قلت كل ما أعرف وما يجب أن يقال.

ثم تكرّ السداسيات ونغير المواد والجداول ويمرّ طلبتنا فوق الأسماء فلا يحفظونها وفوق الأفكار فلا يغصون فيها وفوق تقنيات البحث فلا يخرجون للميدان لتطبيقها فجامعتنا تدرس مناهج البحث في المدرج ولا تتوفر لنا الإمكانيات لنحملهم إلى الميدان لمجابهة الحقيقة الاجتماعية. وعلى علم الاجتماع أقيس بقية مواد العلوم الإنسانية والقانونية. تعليم نظري مختصر ومكثّف لا يفي المواد حقها ولا يطق حرية المدرس في الإسهاب والشرح والتوضيح. وأعتقد أن الكليات العلمية تعيش مشاكل مشابهة مرتبطة بالضرورة بفقر التمويل. إن دروسنا فقيرة لأن جامعتنا فقيرة لكن الفقر المادي وحده ليس عذرا كافيا لضحالة التكوين الذي نقدمه.

قطيعة بين الجامعة والواقع

كنت ذات يوما موظفا في إدارة تونسية وطلب مني أن أعد تقريرا لجهة أعلى عن الموارد البشرية المكلفة بالعمل فلما صنفت الموظفين المكلفين بحسب الشهادة العلمية ووضعت تخصصي في علم الاجتماع أمام اسمي طلب مني رئيس المباشر أن ألغي ذلك واضع نفسي ضمن فريق خريجي الحقوق فشهادتي لا قيمة لها في الإدارة. ولم يكن ذلك إلا مؤشرا على مكانة العلوم الإنسانية في الإدارة التونسية. وهذا مرض عضال فالمطلوب موظف يعيش بالنص القانوني الحرفي ولا يفكر إلا في حدود النص وتعبر العلوم الإنسانية شيئا زائدا عن النصاب أو هي في أفضل الحالات ديكورا جامعيا. فلا يمكن أمام العالم أن لا ندرس علم الاجتماع أو علم النفس. لكن ماذا نفعل بكم الخرجين في المواد الإنسانية.

الإدارة التونسية لا تجيب على هذا السؤال. ذلك لأن المطلوب هو التفكير في حدود ضيقة. أو بصيغة أدق الانضباط الوظيفي الذي يسمح به التكوين القانوني أما التفكير فمتروك للقادة والقادة هم الساسة والساسة لا يحبون التفكير.(سيغضب هذا التحليل جماعة القانون لأنهم يرون في أنفسهم قادة مفكرين ولكن عليهم قبل الغضب أن يحللوا مقدار المحافظة والجمود في تطوير الإدارة التونسية التي يتولون أمرها منذ حكم البلد خرّيج حقوق يغير الواقع بالنص دون أن يقرأ مجرياته). وما هذه إلا نافذة من النوافذ المطلّة على القطيعة بين جامعتنا وواقعنا فنحن نسير على خطة قديمة لم نطورها بعد. رغم ما قيل عن برنامج (إمد) (إجازة- ماجستير- دكتوره) الذي فرض على الجامعة التونسية بتمويل أجنبي وبحجة تطوير التكوين ليتماشى مع السوق العالمية لتوظيف الكفاءات وقد صار هذا الأمر مضحكا لمن يروى له فنرى على وجهه علامات الشفقة علينا وعلى جامعتنا وعلى طلبتنا.

واقعنا يطلب تقنيين.

لم يذهب أوجست كونت إلى الجامعة ولم يدرس بها بل نبذ وأقصى من النخبة الجامعية المحافظة في زمنه. لكنه فكر وقدر فوضع أسس الفلسفة الوضعية التي مهدت لعلم الاجتماع. بصفته علما ماديا وضعيا. وكثير من مفكري عصر النهضة الأوربية لم يمروا بالجامعات بما يجعل انتظار مفكرين أفذاذ وطلعات تصنعهم جامعات أمرا غير ذي جدوى فالجامعات ومنها الجامعة التونسية خرجت حتى الآن تقنيي المعرفة أو الشُّرَّاح وكثيرهم بليد يكرر بمثل صبي المؤدب خلف الحافظ.

السوق العالمية للتشغيل والمحلية قبل ذلك لم تعد تحتاج إلى فلاسفة أو مفكرين يضعون نظريات كبرى. هذا لا يعني أن التفكير والإبداع قد توقفا لكنهما لم يكونا أبدا مشروطين بالشهادة الجامعية مهما علت (هناك استثناءات تؤكد قاعدة). السوق تتطلب خرجين تقنيين بقدرة ميدانية عالية وبفهم متجدد للواقع ومتطلباته. لكن جامعتنا مرابطة على التعليم النظري خاصة في مجال الإنسانيات وهذه نقيصة أراها بصفتي أحد الذين يقدمون دروسا نظرية معزولة عن الواقع. ولا أجد منها فكاكا ولا أقدر على تغييرها وحدي فضلا على أني أعرف الحاجة إلى التغيير ولا ألمُّ بكل أطرافه ومتطلباته.

الصراع الأيديولوجي يكبّل الجامعة

في بداية الثورة انطلقت حوارات كثيرة عن ضرورة إصلاح التعليم العالي. ولكن لأن وزير التعليم العالي كان نهضويا ضمن حكومة الترويكا فقد انصرف الجهد النقابي الجامعي إلى التشويش عليه وتعطيل عمله من قبل نخبة تملكت الجامعة في سنوات بن علي عندما كان الوزير المذكور يبيع البقدونس ليعيل أطفاله. وكان المطلوب إغلاق الجامعة لتسجيل واقعة فشل الوزير قبل إصلاح الجامعة.

مات الوزير بعد أن ماتت حكومته وفقد حزبه السلطة والوزارة ولكن الجامعة لم تتطور. وها نحن نعود بنفس الدروس لنفس البرنامج الذي يقرّ الجميع بفشله ولا يقدم عنه بديلا.

ويمكن أن نقدم مثالا آخر عن هذا الصراع الذي يكبل الجامعة. فقد كانت نقابة التعليم العالي التي يسيطر عليها اليسار تطالب بأن يتم انتخاب كل مسيري الجامعات انتخابا ديمقراطيا من كل أعضاء هيئة التدريس بمن في ذلك المساعدين المتعاقدين والمبرزين من غير حملة الدكتوراه. لكن تبين أن عددا كبيرا من المنتدبين حديثا لا ينتمي لهذه النقابة لأسباب سياسية فهو ليسوا من اليسار وربما فيهم طيف إسلامي الهوى فنكصت النقابة اليسارية على عقبيها إلى شرط الانتخاب القديم أي أن يتم انتخاب المسيرين(العمداء ورؤساء الجامعات) من قبل الأساتذة المحاضرين وأستاذة التعليم العالي فقط حيث تتوفر النقابة على أغلبية مضمونة توجهها لمن تريد من المسيرين.

أنها معركة أيديولوجية فالسيطرة على الإدارة تعني السيطرة على مقدرات الجامعة المادية ومنها يتم توجيه المقدرات المخصصة للبحث العلمي (وهو قليل) وللمؤتمرات ووحدات البحث العلمي والرحلات العلمية وغيرها ممن يغري المدرس الجامعي ويصنع له سيرة مهنية ترقى بوضعه المادي. كما أنها معركة تتفرع منها معارك لجان الانتداب الجامعي وهو الغربال الضيق الذي حاصر به التجمع الحاكم واليسار لمستكين داخله كل المختلفين عنهم زمن بن علي فلم يدخل الجامعة إلا من كان على هواهم أو لم يعرف عنه هوى إسلاميا خاصة.

هل ينصلح حال الجامعة بمثل هذه النخبة الجامعية

إجابتي يائسة حتى الآن دون التشكيك في مقدرات الزملاء أو كفاءاتهم أو طموحهم إلى جامعة ترتقي في التصنيف العالمي للجامعات. ولكن الإصلاح المطلوب يقع بالضرورة ضمن باقة إصلاحات تشمل كل مراحل التعليم من الابتدائي إلى العالي ونراها مسارات متلازمة بحيث يضع كل إطار التدريس وكل الإدارة التعليمية ثقلها في العملية وعلى فترة زمنية طويلة وضمن رؤية تقدم التقني على النظري وتقدم متطلبات الواقع على سلامة التنظير.

وهنا تكمن الصعوبة الأوركسترا التعليمي في تونس بلا قائد أوركسترا وربما يتوفر على عازفين أفذاذ ولكن السمفونية لم تكتب بعد. وأنّى لها في خضم الصراعات التي تشق النخبة وخاصة الصراعات الأيديولوجية فاليسار لم يخرج من حربه الأبدية ضد الإسلاميين في كل المواقع التي يحتمل تسربهم إليها. والإسلاميون لا يقدمون خطة وإن قدمت تلغى لضعفهم السياسي (حجم حزبهم لا يدل على قوة نفوذهم في الإدارة بل العكس). وطبقة رأس المال التي تستثمر في التعليم العالي الخاص تعيد إنتاج الرداءة ولا ترى في التعليم إلا تجارة رابحة بتكوين هش وليس أدل على ذلك المعركة القائمة الآن بين الجامعات الخاصة وعمادة المهندسين التي ترفض الاعتراف بالمهندس المتخرج من جامعة خاصة.

نسير مع القافلة عاجزين عن تغيير مسارها رغم معرفتنا بأن آخر الطريق لا تؤدي إلى ما نريد وليس أكثر يأسا من أن نعيد تعليم أولادنا أوجست كونت ونختم الدرس بالدعاء لهم بالنجاح. فنحن أيضا لم نحل مشاكلنا مع الوضعية. ولكننا نحسن التخفي خلف المشاكل الوضعية لكي لا نعالج جذور التفكير غير العملي الذي يحكم سلوكنا.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات