المشهد السياسي الآن في تونس قبيل انتخابات 2019 يهيمن عليه حزب النهضة القوى والمنظم والجميع يتوقع لهذا الحزب فوزا كبيرا بل ربما ساحقا يؤهله للحكم أو في أقل الحالات الإحاطة بالحكم بحيث لا يمكن لمن يحكم ظاهرا الفكاك من سلطة الحزب باطنا. لكن سواء كانت هذه التحليلات تعادي الحزب على قوته أو تعمل على أن تطمئن إليه ليحكم فإن سؤالا مهما لا يزال مؤجلا وقد وجب طرحه والشروع في البحث عن الإجابة عنه .
هل أن كفاءة الحزب الانتخابية وحدها كافية ليحكم أم أن عليه العمل على توفير كفاءة أخرى تمكن له لا في الصندوق الانتخابي فحسب بل في عقول المحكومين بالصندوق باعتباره المحطة التأسيسية في مشروع الديمقراطية. وهذا السؤال (والإجابة المتوقعة) تتجاوز حزب النهضة التونسي إلى كل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية (والإخوان منهم خاصة) لأنه سؤال يتجاوز الحالة الحزبية (القطرية) إلى تيار الإسلام السياسي عامة.
لوثة التأسيس
سنعود قليلا إلى الوراء لنجد نقطة ارتكاز لهذه الورقة. عندما يتحدث الإسلاميون عن حركاتهم وأحزابهم فإنهم يعلون الانتماء إلى مشروع حفظ الهوية. ويعتبرون أنفسهم سور الهوية العربية الإسلامية الأخير خاصة في مواجهة من يسمونهم تيار التغريب. هذه من لوثات الميلاد تحت حكم الاستعمار الغربي المباشر. ولأن الحكومات لم تبلور استقلالا حقيقيا وكان مشروع التحديث ملوثا بدوره بغرام التجارب الغربية وتقليدها فإن هذه الحركات لم تفلح في الانعتاق من خطاب الهوية. استعذب الإسلاميون خطاب المزج بين الهوية والتحرير فمكثوا دهرا طويلا في موقع حركة التحرر ونسوا أو غفلوا أو عجزوا عن الخروج إلى خطاب البناء السياسي ما بعد الاستقلال أي التحول إلى حركات منتجة لبدائل حكم(برامج تنفيذية مبينة على تصورات عملية ومقترحات قابلة للتنفيذ).
هذا الموقع المريح نفسيا والذي تكرس بالقمع السياسي المستمر (وهو عذر حقيقي) هو في وجه منه لوثة متأتية من تجاور خطاب الإسلاميين مع بقية التيارات الأيديولوجية الأخرى العروبية واليسارية. والتي كانت بدورها تختفي خلف قضية فلسطين التي كان لها دور كبير في التغطية على عجز جميع التيارات على بلورة بدائل حكم. لأنها كلما عجزت أو قهرت تغطت بقضية تحرير فلسطين كذريعة (استقلال الأمة جمعاء بدء بالأرض المحتلة قبل بناء الدولة العربية)(لدينا سبعون سنة من التعلل أو التحجج بقضية تحرير الأرض الفلسطينية لكي لا تطور الأحزاب العربية ومنها الإسلاميون بدائل الحكم) لذلك كانت مفاجأتها كبيرة بالربيع العربي الذي أسقط رؤوس الأنظمة ورمى أمامها السلطة السياسية فوجدت نفسها كمن رميت أمامه جمرة فلم يفلح في التقاطها فاحترق بها.
لقد ولدت تيارات الإسلام السياسي والإخوان منهم خاصة في بيئة مصبوغة بأيديولوجيات كليانية (السلفية الوهابية (الشريعية) والماركسية والقومية فحملت منها كل كليانيتها وزاد القمع في تكلس قدراتها على التفكير والاقتراح
وهناك لوثة أخرى دخلت على حركات الإسلام السياسي من الفقه الوهابي هي لوثة تطهير الإسلام من دنس الشرك أي إعادة أسلمة الإسلام كما لو أنه عاد جاهلية تحتاج إلى إعادة تعريف وتنظيف. مشروع أسلمة الإسلام استولى على جهد كبير من عمل هذه الأحزاب وظل يعيق اهتمامها بالشأن المعيشي الذي هو موضوع التفكير الحقيقي المطلوب شعبيا. حتى وصلت الربيع العربي عاجزة عن التفكير وإن لم تعجز عن الوعظ والإرشاد بخطاب لم يعد يطيعها فيه إلا زاهد أو جاهل. هل يمكنها الخروج من مأزق الكليانيات المستنفذة؟
بين تسوير الإسلام وتسييله.
لقد وقعت الثورة في منعرج تاريخي فكري بالأساس هو نهاية فعالية الأيديولوجيات الكليانية واشتداد الحاجة إلى تسييل الثقافة الصلبة من أجل عالم بلا أسوار هووية. لقد استنفذ مشروع (الأمة الدولة الأرض) أغراضه وحل محله مشروع المواطن الكوني وهو تحد أمام الجميع وخاصة الإسلاميين الذين ورثوا دينا موجه للعالمين وليس للمسلمين وحدهم.
الإسلام العالمي ليس سورا للهوية للمؤمنين به بل هو مشروع عدل اجتماعي للمؤمنين به ولغيرهم أي مشروع دولة وضعية. يوجد هنا مفصل صراع تاريخي بين (إن الدين عند الله الإسلام وبين لا إكراه في الدين) وهو محل اجتهاد ينتج برامج حكم (إدارة دولة لجميع المواطنين لا دولة للمؤمنين).
قد يعني هذا الكلام كل التيارات الأيديولوجية الكلاسيكية(ماركسية وقومية) ولكن الورقة مخصصة للإسلاميين وربما نوسع لغيرهم في غيرها. الربيع العربي جاء دعوة ملحة للخروج من التأويل الكلياني للإسلام. أي ضرورة كسر الأسوار للخروج من خطاب الهوية التحريري أو ما يمكن أن نسميه بتسييل الإسلام أي الخروج من خطاب الشريعة إلى خطاب الدولة الوضعية بصيغة أخرى الاجتهاد في بناء إسلام وضعي. يقدم ملء بطون الناس بالدنيوي قبل قلوب الناس بالإيمان الأخروي. لقد علمنا التاريخ أن المساكين يعوضون بالإيمان فراغ البطون.
ما هو المشروع المطلوب الآن وهنا ؟
كل انفتاح على المختلف وقبوله هو خطوة نحو محو الكليانيات وهو ما عجزت عنه الماركسية العربية حتى الآن حيث حشرت نفسها في أطروحة سلفية تطهيرية لا تختلف في شيء عن الوهابية التطهيرية (القومية العربية تعاني من نفس المرجعية التطهيرية). فلا حق في الحياة لغير المنتمين للفكرة في طهوريتها الأولى. طائفية مقنعة تقف عاجزة عن الرد على أسئلة الانفتاح على المختلف الوطني والكوني.
توجد معضلات بنيوية فتسييل الثقافة الصلبة يصطدم بمعطى أساسي مشروع بناء الأمة الدولة(التجربة الأوروبية) لم يكتمل عربيا نتيجة الاستعمار المباشر ونتيجة عمل دويلات الاستقلال الفاشلة.كيف يمكن تجاوزه قبل اكتماله؟ هل يمكن الدخول إلى مرحلة انفتاح هوياتي قبل استيعاب المرحلة الراهنة؟ ماذا نفعل بمكون صلب في الهوية مثل اللغة العربية التي يتم ربطها دوما بالمقدس الديني؟
لا يوجد مسار حتمي للتاريخ وإن ادعت النظريات الكليانية ذلك. وعليه فإن السؤال السابق هو سؤال كلياني يتوهم (يتوسل)حتمية تاريخية يحتمي بها من مسار الاجتهاد في اللحظة الفاصلة. وقد وجب تجاوزه إلى أسئلة جديدة مؤسسة.
في لحظة فارقة بدا لنا أن فصل الدعوي عن السياسي خطوة في اتجاه تسييل الإسلام وأن مشروع بدائل وضعية آخذ في التشكل بديلا عن الإسلام هو الحل. لكن لم يعقب ذلك فتح حقل تفكير في هذه البدائل بل يرتد الخطاب أحيانا إلى القوقعة الهوياتية متذرعا بوضع الضحية المطاردة. لذلك فان الفلاح في بناء التنظيمات القوية التي تسمح بكفاءة انتخابية تكتشف فراغات كبيرة بعد النجاح الانتخابي جوهرها ماذا تفعل بالنجاح الانتخابي؟ هل تعيد إنتاج النظام الذي ثار عليه الناس؟
الملاحظ أن هذا ما جرى منذ بداية تجربة النهضة في تونس. لقد أعيد إنتاج النظام القديم بوجوه جديدة.(بل ببعض وجوه النظام نفسه) والحديث هنا لا يتم عن طيب النوايا بل عن البرامج. يتحدث الجميع عن المقاصد والعدل مقصد أسمى لكن المنتج المقروء حتى الآن هو فقر البدائل الذي يستعين بالنظام القديم.
تقدم التجربة التركية حالة مدرسية أولى للخروج من كليانية إسلامية تجاوزت خطاب الهوية إلى خطاب البرامج والنتائج واعدة في حدود الحالة التركية حتى الآن. لكن العثمانية الكامنة وراء النجاحات الداخلية تهدد التجربة بإعادتها إلى مشروع فتح جديد لتطهير الإسلام. فيظهر الأمر كمناورة مؤقتة لإخفاء الموقف الكلاسيكي (الإسلام هو الحل).
التحرر بالانفتاح يبدو خطة ممكنة. تضع جانبا تسوير الإسلام كهوية فئوية. لتحوله إلى مشروع حكم للمتنوع ثقافيا وأيديولوجيا. يسمح عالم متعدد الأقطاب بهامش مناورة مختلف عن السابق بحيث يصبح الشاغل الأول هو التنمية المستدامة والعدل الشامل قبل استعادة صفاء العقيدة في نفوس الأفراد. قد يصل هذا المشروع إلى حد السكوت عن الدعوي في هذه الأحزاب والتفرغ للعمل المدني اي شؤون الحكم ضمن مبادئ العدالة الوضعية التي لا نجد فيها تناقضا مع مقاصد الشريعة.
سيقول البعض وماذا يبقى من الأحزاب الإسلامية إذن؟ وستكون الإجابة لماذا توجد أحزاب إسلامية أصلا؟ أفق العمل هنا تحرير الأحزاب من الإسلام وتحرير الإسلام من الأحزاب. أي إنهاء تملك المرجعية الدينية لاكتساب مرجعية مدنية (وضعية) لم تكن يوما متناقضة مع الدين وإنما كان تناقضا مصطنعا حتمته أيديولوجيا التحرر الوطني حيث كان العمل الأيديولوجي يربط ما هو وضعي بالاستعمار. (هذه من ترسبات فكر النهضة للقرن التاسع عشر). هل على الأحزاب الإسلامية أن تحل نفسها؟ عليها أن تتعلم أن خطاب الهوية بتطهير الإسلام لتطهير المسلمين ليس خطاب تنمية. فالناس يصوتون لمن يملأ جيوبهم قبل ملء قلوبهم بالإيمان.