أحداث كثيرة في تونس تستحق أن نربطها بخيط لنجد بعض معنى لما يجري. فربَّ حادث صغير يبين عن جبل من المعنى. ولكن بعض المعنى وهم في طاحونة الشيء المعتاد. هذه تونس التي استعادت روحها الجامدة بعد ثورة أوشكت أن تزلزل الموت المخيم ثم نامت دونه سكرى بوهم الانتصار. النهضة تشرع في مؤتمراتها الجهوية وتستعد لمؤتمر تاريخي. إيحاء بحزب كبير يستوفي شروط الديمقراطية الداخلية. في مقابل تفكك حزب النداء الحكام وتشتت كتلته البرلمانية. إشارة إلى حزب لم يقف على قدميه منذ ولادته. وفي الأثناء تعديل حكومة مستقرة في الهشاشة. قدمت وجها آخر لا يختلف في شيء عن وجهها القديم كأنها قطعة عملة بوجهين متطابقين. وها نحن نسخر منها سخرية سوداء حول مستقبل لم نعد نملك أسبابه إلا أماني.
وهم النجاح النهضاوي في مقابل واقعية حزب النداء المفكك
ما من سبيل إلى العودة إلى السلطة غير اتّخاذ أقوى الخصوم حليفا. ولكن لكل مرحلة حليف ولا عذر للحلفاء إذ يسلمون رقابهم. يحضر الغنوشي زعيم النهضة مؤتمر النداء الذي اختار لها من الشعارات الوفاء دون تدقيق (الوفاء لمن؟(إن لم يكن لتاريخ النظام الفاشي الذي رباه. لقد شعر المتابعون بأن الاحتفاء بزعيم النهضة في المؤتمر فاق الاحتفاء بمؤسسه (الباجي). والذي كان حضوره خرقا واضحا للدستور الذي يمنع الانتماء السياسي الحزبي على رئيس الدولة. ولكن هل هو احتفاء القبول بالإسلاميين والمصالحة النهائية معهم ووضع حد لصراع دام نصف قرن؟
أعتقد أن هذا التفاؤل في غير محله بالنظر إلى طبيعة الفئات الاجتماعية المكونة للحزبين. فمصالحة الزعيمين وتفاهمها على إدارة المرحلة بأخف الأضرار على حزبيهما وعلى رؤيتهما لمصلحة البلد لا تؤدي إلى مصالحة بين مكونات الحزبين الحقيقية. فالنداء حزب طبقة رجال الأعمال التي استشرت واستشرست في النظام السابق وساندت نظامه ضد كل اصلاح ديمقراطي ومصالحة وطنية مع الإسلاميين وغيرهم. بينما قاعدة النهضة هي الطبقة الوسطى والمفقرة التي عانت الإقصاء السياسي والتهميش الاقتصادي وهي تعاني مع بقية فئات الشعب من أجل قوتها. فمصالحها على الأرض هي النقيض الفعلي لمصلحة طبقة رأس المال. وإذا كان أفق التحليل النهضاوي لا يرى استحالة ذلك فهو تحليل يغالط نفسه لسبب آخر هو الخوف من إعادة تجربة الإقصاء والمحق السياسي الذي تعرض له سابقا. لكن الواقع لا يقبل بكسر هذا التناقض بناء على حسن النية فقط. للتدافع (وهو مصطلح عزيز على الغنوشي) حكمته وقاعدته هي التناقضات المادية وهي غير قابلة للنسيان. لأنها تستيقظ كل صباح لتذكر الفقير بفقره و تجعل الغني أشد حرصا على غناه.
من هنا تبدو مصالحة الفقراء مع الأغنياء خدمة يقدمها حزب الفقراء لإنقاذ ثروات الأغنياء ومكانتهم التي تحوزوها في زمن غير ديمقراطي.
يستنكف الإسلاميون عن تبني هذه القاعدة المادية للصراع الاجتماعي (ربما لتوتر علاقتهم بحركات اليسار التي تتبنى قواعد التحليل المادي لحركة التاريخ)، لكن تجاهل القاعدة الفعلية للصراع/ التدافع ينتج حالة من عدم الفهم وبالتالي الوصول إلى تموقع قاصر.
في اللحظة التاريخية التي استقبل فيها الندائيون زعيم حزب النهضة لم أر توبة الندائيين عن فسادهم (وتحولهم إلى برجوازية وطنية ذات مشروع) ولكني رأيت تغاضي الإسلاميين عن معانتهم من أجل عدم تكرارها. دون أن يتغير موقعهم فعلا في تقرير مصيرهم ومصير البلد. لقد كان هناك مشهد نتندر به زمن الدكتاتورية هو أن حارس المؤسسة (الشاوش) ورئيسها منخرطان في شعبة حزبية واحدة. لكن الحاكم معروف مسبقا ومقدم الشاي لا يمكنه تجاوز دوره. ولقد رأيت النداء (الجسد الحقيقي للنظام القديم) يغير مقدم الشاي ولا يغير الرئيس، ولا قواعد الانخراط. وهنا تكون النهضة بصدد إنقاذ خصمها القديم مما ألحقت به الثورة من ضرر وهو يستقوي بها مرحليا لمرحلة أخرى من الحكم بدونها.
لقد استقوى على الثورة باليسار طيلة سنتي حكم النهضة ثم رماه كما يُرمى كلينكس مستعمل وسيكون الدور القادم على النهضة. إنها مسألة وقت لا غير. وتلك طبيعة الأحزاب البرجوازية غير الوطنية.
سيرة التفضل بالهواء على الإسلامي التونسي
هل كانت للنهضة خيارات أخرى غير التزلف للنداء؟ طرح السؤال بهذه الطريقة يصادف هوى في نفوس النهضويين. فلسان حالهم يقول: نحن مضطرون لهذا التحالف باسم دفع ضرر أكبر لا تزال آثاره على جلودهم. السؤال يقدم لهم عذرا مريحا. والسؤال الأصوب يجب أن يوجَّه أيضا لبقية مكونات الساحة السياسية من خارج النهضة والنداء: لماذا لم يمكن بناء تحالفات سياسية ضد النداء (ممثل النظام القديم) تكون النهضة إحدى أركانه؟
إن بقية مكونات الساحة لا تعتبر النهضة حزبا وطنيا. وقد تعففت دوما عن العمل معه إلا أن يكون بأسلوب السيد نجيب الشابي. أي التودد للنهضة باعتبارها خزانا انتخابيا غبيا يمكن استعماله. تودد يمنح الأوكسجين السياسي للنهضة بشرط أن تمنح السلطة لغيرها. يبدو اليسار هنا منسجما مع نفسه، إذ إنه يقصي النهضة (والإسلاميين عموما) منطلقا من قراءة ثقافية واضحة. لا يمكن بناء أي تحالف بين التقدمية والرجعية. بينما يظهر غيرهم ودا كاذبا لهم مؤداه: ليكن للإسلاميين حزبهم السياسي لكن لا حق له في الحكم، بل إن عليهم منح أصواتهم وهي ضمانة النجاح والاكتفاء بتنفس الهواء. هذا الإقصاء الناعم كان أشدَّ على الإسلاميين من إقصاء اليسار.
يوم وصل الإسلاميون بالانتخاب إلى السلطة في 2011، كان معارضهم الأول هو نجيب الشابي الديمقراطي وليس حمة الهمامي. ولذلك فكر الإسلاميون وقدروا طبقا للمصلحة الحزبية. ولذلك لم يعودوا يأخذون بجدية الانتقادات الموجهة إلى تحالفهم الحالي. فهم يشتغلون على الخروج من السجون ومن وضع الحمار القصير (المركوب السهل). وكلاهما إقصاء جربوه وعرفوا أصحابه. وهو موضع نقاش في مؤتمراتهم المحلية الجارية. ولا شك أنه سيدفع إلى المزيد من التلاحم مع النداء. وقد بدأ بعد يبني خطابه الأيديولوجي بالقول إن النداء جناح وطني دستوري في الحركة الوطنية. وصورة الطير بجناح نهضاوي وآخر ندائي حسمت التحالفات المستقبلية.
أفق الدم القادم
نزلت على الأرض بعد تحليق ثوري توهم العظمة في تجربة صغيرة ومحدودة. لم تفلح النخب في تطويرها إلى ثورة كاملة. لذلك أرى هذا التحالف (ابن الخيبة(قائما ضد طبيعة الأشياء وإن قدم الآن مرحلة من الهدوء الحذر. إن أقصاء تيار إقصائي من النداء يعتبر معركة مربوحة ضد الدم. لكن هل تغيرت بقية النوايا نحو تعايش كامل بين الإسلاميين والنظام القديم؟ أتمسك بالتحليل القائم على أن الصراع يقوم على تناقضات اجتماعية عميقة. هي نفس التناقضات التي أجهضت ثورة أولى في 1864 (ثورة العربان/ على بن غذاهم)، وحولت وجهة الدولة الوطنية بعد الاستقلال إلى دولة حارس لمصالح البرجوازية التابعة، وهو نفس المسار الذي يعلن الآن المصالحة ويخفي نية الاستدراج والاحتواء.
تغيرت أساليب الاحتواء وأدواته. لكن أي ارتداد عن هذه المصالحة/ الإلحاق سيعيد كل شيء إلى نقطة الصفر.. ويطرح الصراع الدموي نفسه على الجميع. ربما يكون الإسلاميون هذه المرة جزءا من السلطة الحارسة لمصالح البرجوازية، بعيدين عن إسلام اجتماعي اعتبره جوهر الإسلام الأول الذي يشكل الآن مثالا بعيدا عن متناول يد إسلامي يفكر في الحد الأدنى للبقاء.