الجميع يلعن التوافق لكن لا أحد يعود إلى السؤال الأصلي من أنقذ المنظومة القديمة من الزوال فعلا؟ في مسلسل لعن التوافق الذي يجمع حزب النداء وحزب النهضة بعد 2014 ويتناسى بقية الأحزاب المتوافقة معهما تبدأ اللعنات عامة ثم تنتهي خاصة فتنصب على حزب النهضة بصفته الخشبة التي تعلق بها حزب المنظومة القديمة كي لا يسقط وتدوسه الأقدام.
توجد هنا مغالطة جسيمة لم يعد يمكن لعاقل أن يسلم بها المنظومة القديمة لم تمت تحت سنابك الثورة المظفرة بل كانت حية تتنفس وقد انتعشت بهواء اعتصام باردو قبل أن تواصل الحياة بالتوافق مع النهضة.
لذلك وجب التصحيح بدء بالقول إذا كانت المنظومة قد فازت بغالبية برلمانية كحزب أول يشكل حكومة طبقا للدستور فلأنها وجدت سندا قويا دخلت به الانتخابات وفازت أما ما تلى ذلك فنتيجة لانتخابات 2014 التي لا زلنا نحتمل جميعا نتيجتها. هذه نقطة البداية ومن لم يبدا من هنا لتقييم سياسات ما بعد 2014 فهو متحيز لاستئصال بغيض.
المغالطة الأكبر أن الجميع متوافق مع التوافق ويتطهر على حساب النهضة وقد كشف انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية أن الجميع لا يرفض مبدأ التوافق بل يعمل من خلاله فقد جمعت اللحظة لاعني التوافق ضمن منطق توافق سياسي يرضى باقتسام المسافات نحو المستقبل بما يدعو المتوافقين أن يكفوا عن اللغو فهذا أفضل لشرفهم السياسي عن لعن التوافق الباقي الذي لم يجدوا فيه مكانا. في هذا الأفق سننظر في بعض ما جرى ويجري بعد انتخابات2014.
تقييم مسار ما بعد انتخابات 2014
يمكن تقييم المسار بكثير من الهدوء فقد تراكمت نتائج كثيرة جديرة بالنظر.
على مستوى النتائج الاقتصادية يمكن القول بأعصاب باردة أن الحكومات التي أدارت البلد بعد الانتخابات قد أودت به إلى كوارث ستظل نتائجها ثقيلة على ما بعد 2019. نتائج لا يمكن لمتحمس حزبي أن يدافع عنها فضلا عمن يزعم الاستقلالية عن الأحزاب الحاكمة. لكن لنرى عمق الكارثة ونحمل المسؤوليات وجب أن نخرج من مغالطة كبيرة.
يجب أن يشمل تقييم المسار أداء كل الأحزاب التي شاركت في الحكومة ولا يقتصر على حزب. والأحزاب التي ادعت الطهر الثوري فهذا التدقيق ضروري لأن كل خطاب ترذيل الحكومة الذي ينتهي غالبا بتوريط حزب النهضة في النتائج الكارثية. يغفل بشكل متعمد دور أحزاب مثل أفاق وحزب الرياحي (والذي لفرط ضآلته ينسى اسمه) فضلا عن حزب النداء الحائز على أغلب مقاعد الحكومة وقبل ذلك يغض الطرف المتعمد عن دور النقابة التخريبي. ويصور المعارضة كملائكة أطهار.
البلد يتراجع ويغرق في المديونية وينخر الفساد مفاصل الدولة وجميع من تقدم للحكم مسؤول. ووجب قول ذلك بصوت عال. لكن التخصيص على طرف هو إعفاء طرف آخر وهذا فساد أخر
سيقف بعض الحمقى هنا ليقولوا هذا دفاع عن حزب النهضة هنيئا لهم الحمق لكن التقييم الموضوعي هو بالضرورة تحميل مسؤوليات لكل فاعل بقدر دوره. حتى يتسنى المرور من الأزمة إلى حل الأزمة. لكن ما نسمع من تقييم هو مواصلة للازمة ولا غاية له في حلها. وعليه فإن تقاسم مسؤولية الكارثة الماثلة يجب أن يتوزع على الجميع حكما ومعارضة.
التوافق أنقذ تونس من حروب بن علي
أول عناصر التقييم هي الاعتراف بأن هناك أخطاء جماعية وأهمها عدم وضع الأطراف السياسية في حجمها وأدوارها الطبيعية. فعندما كان الحبيب الصيد يشكل حكومته الأولى والثانية وكان يعطي لحزب بحجم برلماني صغير مثل حزب آفاق حجما أكبر من حجمه كان الجميع يبارك توسيع التوافق وعندما دعيت الأحزاب والنقابات لإمضاء وثيقة قرطاج(سند حكومة الشاهد القائمة) لم يعترض أحد على إشراك الأحزاب الصغيرة ولا على إشراك النقابات في العمل السياسي.
لقد كان شعار الوحدة الوطنية غلافا أخويا لمسألة أخرى تتخفى وراء الخطاب المدهون بنفاق كثير. ذلك النفاق هو جوهر المعضلة السياسية التونسية. لكن هناك نقطة ضوء شحيحة لقد عجزت منظومة بن علي عن العودة إلى الاستئصال السياسي.
لا أحد يجزم بأن لحظة ما بعد انتخابات 2014 لم تكن تفتح على حرب أهلية جديدة يكون ضحيتها حزب النهضة أولا ثم تستعاد سياسة بن علي في الاستفراد بكل حزب على حدة وصولا إلى تدمير البلد ربع قرن آخر. الأدوات كانت موجودة والنوايا حقيقة لا تخمين ولم تقض عليها الثورة ويكذب من يقول أن الدستور كان ضمانة كافية فما الدستور حتى اللحظة والا نص جميل.
لم يكن خافيا على أحد أن حزب النهضة كان هدفا للتدمير من كل أطراف منظومة بن علي من كثير ممن كان محسوبا سابقا على معارضيه دخل حزب النهضة التوافق لإنقاذ جسده (تنظيمه) من الدخول في محرقة جديدة. وقد حقق الكثير من هدفه حتى الآن. كما كشف أن نقاد التوافق مع النداء خسروا أمرين مهمين: الأول مكانتهم في حجر منظومة بن علي والثاني أن النداء لم يفعل بالنهضة فعل التجمع.
هل كسب الناس شيئا من التوافق ونحن نرى هذا الانهيار الاقتصادي؟ التوافق البغيض إلى نفوسنا قطع الطريق على حروب بن علي وعلى من عاش منها دهرا. وهذا هو مكسب تونس من التوافق. ففي هذا الهامش المغلف بخطاب السلم الأهلي أمكن الحفاظ على مكسب مهم هو حرية التعبير وبقي صوت الشارع مرتفعا في مواجهة المنظومة وهي تعيد تأليف عناصرها للانقضاض على الثورة والدستور.
في هامش الحرية المفتوح لم يسمح بالتراجع نحو الاستئصال السياسي وبقيت الحرية صوتا مسلطا عبر الاحتجاج في الشارع والتعبير الحر في السوشيال ميديا.
وهناك مكاسب أخرى يمكن تجميعها تحت عنوان مهم هو فقر معارضي المنظومة ومن تحالف معها وعجزهم عن إحداث اختراق سياسي فعال. يعيد ترتيب تونس دون حزبي النداء والنهضة. أربع سنوات لم نسمع إلا نقد التوافق. نقد ينتهي غالبا بتحميل النهضة كل فشل المرحلة. لا أفكار بناءة ولا تنظيمات شعبية أفقية. ويبدو أن هذا العجز سيستمر فمشهد الترشيح للبلديات كشف هشاشة فضيعة. انكشاف حجم و خواء من تزعم معارضة التوافق يعتبر مكسبا فالشارع مضطر للاختيار ولن يختار الأضعف. مسار التحولات سينهي الأدعياء.
الحقيقة الفاجعة والبناءة في أن واحد هي أن كثيرا من الشخصيات ذات الصوت العالي لا وزن لها أمام المنظومة القديمة. رغم أنهم يتصرفون كأغلبية برلمانية معارضة. أما في الواقع فهم أعجز من أن يحركوا ألف مواطن في مظاهرة.
كل الحزيبات (وأنا أصغّرهم تحقيرا) وكل الشخصيات الوازنة والدعية أيضا تحركت في هامش الحرية الذي ضمنه التوافق وقد حشدت أنصارها القلائل على أساس معارضة التوافق عوض التفكير في البدائل. هي جعجعة ثورية ولا طحين.
الصورة الآن أوضح
هكذا يبدو لي ومما يزيدها وضوحا زوال الغشاوة التي كنا نستسلم لها بنقاوة وطهرية من يعارض المنظومة. وخاصة القداسة التي كنت تصبغ على النقابة. لقد غربلنا ونخلنا الجميع ونحن نراهم بأحجامهم الحقيقية ونرى طبيعة النخبة العارية إلا من الخطاب.
ولقد اختبرنا أيضا عبقرية النهضة الممنوعة من الحكم. فإذا هي تحكم ولا تفلح فلم يعد لها حق في خطاب الضحية أما المنظومة فتحددت معالمها أكثر.
أول المعركة أن نعرف صف الأعداء وقد اتضح. ويمكننا الاختيار. ليس لدينا خيار جيد بين النداء والنهضة. لكن لدينا أن لا نسلم للثوريين بالثورية وهذه خطوة جبارة في طريق الاختيار. بقية الخطوات ستكون واثقة ولو نحو استقالة مستحقة.