وفود الحجيج التونسيين إلى دمشق تتوالى وتتشابه مهنئة ومحتفلة بالنصر ومقدمة طقوس الولاء. الوفود التي ذهبت إلى حد الآن لها لون أيديولوجي واحد أو مكونات متشابهة متقاربة سياسيا. عروبية بعثية سورية ويسارية عروبية. تقييمها للوضع في سوريا أن النظام الصديق قد انتصر وأنه جدير بالتهنئة وأن موقف بلادها الرسمي من النظام السوري يجب أن يعدل فيبدأ بالاعتذار عن قطع العلاقات الديبلوماسية ثم يعيد فتح السفارتين وأن يصحح بإعلان الانتماء إلى نفس الجبهة السياسية والعسكرية التي يقف فيها النظام الآن. ويتبع ذلك الانخراط الميداني في ما يفعله النظام السوري داخليا وخارجيا.
لهذا الحج خلفيات كثيرة ويفتح على قراءات سياسية خاصة ولكن أحاول هنا قراءة هذا الحج من زاوية انعكاسه على الوضع الداخلي التونسي وعلى مستقبل التجربة الديمقراطية التي تتقدم بعسر شديد على ميادين ملغومة.
زيارات تعيد تعرية المواقف الفكرية والسياسية القديمة
الاختلاف السياسي بين التونسيين ليس جديدا هو نسخة أو تطبيقة محلية من الاختلاف القائم بين نفس المكونات في كل قطر عربي واختلاف التونسيين حول الموقف من نظام بشار الأسد هو جزء من هذا الاختلاف الذي هو فصل من اختلاف عن مخرجات الربيع العربي الذي كان ربيعا عند جميع التيارات الفكرية والسياسية حتى تغير مسار الثورة السورية إلى حرب أهلية. وتم تريب المواقف على الأسس القديمة خاصة بعد أن ذهب الجميع مقتنعا بالانتخابات في مصر وتونس وأفرزت الصناديق تقدم فريق الإسلاميين وخسران الفريقين القومي واليساري فاستعيدت نظرية المؤامرة الموجهة وصار الربيع العربي عبريا عند الفريق الذي يحج الآن إلى دمشق ويقدم الاعتذارات وأعلي نظام بشار إلى نظام قيادة الممانعة والمقاومة.
لا يتسع المجال لسرد المواقف المعادية لبشار ونظامه قبل الربيع العربي من داخل هذا الفريق خاصة العداء لحزب الله اللبناني نصير بشار فالمواقف موثقة عن حرب 2006 حين كان يرى ويصر على أن حزب الله هو ذراع إيرانية تلعب في مجال التفاوض الإيراني الأمريكي على السلاح النووي ولا علاقة له بالمقاومة. بل إن بعض زوار دمشق الآن مطبّعون في تونس مساندون للممانعة في دمشق. لذلك نمر إلى السؤال عن سر التوّله الجديد ببشار.
خط الممانعة المنتصر
يتوهم هذا الفريق ويروج أن خط الممانعة بقيادة بشار منتصر في الحرب بعد، وأن خط الربيع العبري الذي جاء بالإخوان ومكن لهم انهزم وعليه وجب تكثيف العمل السياسي ولاحقا الميداني للإجهاز عليه والبداية هي إعادة بناء بل تقوية جبهة بشار (التي لم تنهزم)والتي تمتد لتشمل حزب الله وحفتر والسيسي دون تسميته فالحماس الذي رافق انقلابه بدا يخجل من فشله في إدارة بلاده ولكنه يختصر النقاش في أن فشل السيسي أفضل من نجاح الإخوان الإرهابيين ويقف هناك.
كيف يرى هذا الفريق انتصار بشار وسماؤه ليست ملكه بل ملك طيران الجيوش الأجنبية التي وضعت أقدامها لزمن طويل على الأرض السورية وكيف يمكن تسمية الوضع انتصارا والدولة لا تسيطر على أغلب الأراضي وليس لديها قرار السلم والحرب على قوى دولية وعلى ميليشيات مسلحة تتحرك على أرضها بل هي قيادة تتلقى الأوامر من قادة الجيوش المقيمة؟
لا ينشغل هذا الفريق بهذه الردود بل يذهب إلى الخطوة الموالية يوجد نظام قائم في سوريا الآن (لا يهم عدد العرصات السياسية التي يستند إليها) لذلك فالزيارة لإعادة تأليف جبهة سياسية يقودها النظام السوري المنتصر ليعيد أمور الأمة إلى مجراها الطبيعي بعد انحرافها الربيع العبري الاخواني عن مسارها. نحو التطبيع مع العدو.
الأفق الجديد لجبهة الصمود والتصدي
اسم من الماضي خلناها اندثر لم يستعد بنفس التسمية ولكن بنفس الأهداف. فهل هو حلف ضد الصهاينة فعلا أم له أهداف أخرى محلية؟
نلاحظ أن الحج لدمشق حتى الآن حج تونسي ولم نسمع عن وفود جزائرية أو مغربية أو حتى مصرية لدمشق. بما يضعنا في مجال تحليل محلي. هذا الحج وإعلان الوفاء (بما في ذلك الأمر بالاعتذار الذي صدر عن نقابيين حصلين علة جائزة نوبل للسلام) يضع خطة عمل سياسي داخلي موجه ضد فرقاء الداخل مستقويا بنظام بشار. وهو يصدر عن تحليل ورؤية.
يرى هذا الحلف أن أعداء بشار (أصدقاء سوريا سابقا) يستندون إلى جهة خارجية للاستقواء بها محليا. وهي قطر وتركيا(واجهتا التنظيم الدولي للإخوان المسلمين) وهذا الحلف ليس إلا صنيعة صهيونية أميركي. والرد على هذا الحلف يكون بإعادة بناء حلف أعداء الإخوان (مع بلد يعتبر إعلان الانتماء للإخوان جريمة عقوبتها الإعدام).وهذه الزيارات هي بداية لتنظم قديم يتجدد لخوض المعركة نفسها والتي يعتبرها الحجيج إلى دمشق معركة حياة أو موت ولا يمكن إنهاؤها باي شكل من أشكال التفاوض السياسي داخل ديمقراطية مختلفة في بنائها ووسائلها عن نظام بشار ووسائله.
من هذه الزاوية وطبقا للاصطفافات القديمة ما قبل الربيع العربي فإن الزيارات إلى دمشق هي استعادة مثابرة لنفس المعركة وهي بالنتيجة المقصودة والمتوقعة نقل معارك الحرب الأهلية السورية إلى تونس(بناء على فرضية أولية عمل بها النظام السوري وأدار بها دعايته السياسية الإخوان هم داعش وداعش هي الإخوان). أما متى تبدأ المعركة فهذا مرهون الآن بإرادة القائد بشار (زعيم الأمة المنتصر) فهو من سيلقي الأوامر لبدء معركة في تونس يكون هدفها القضاء على أصدقاء سوريا أعداء بشار.
ثمة معضلة هنا لا أرى وفود الحجيج معنية بالإجابة عنها وهي أن هذه الوفود متكونة من أشخاص منتخبين ضمن سياق حريات وديمقراطية وقد أكسبتهم الانتخابات الصفة السياسية الاعتبارية الكافية لتكون زياراتهم ذات صدى إعلامي وسياسي مفيد لمن زاروه فهم نقابيون منتخبون في مؤسسة لا يمكنها أن توجد وتعمل إلا في وضع ديمقراطي كما أنهم نواب في برلمان متعدد وقد تشكل بعد انتخابات ديمقراطية ضمن قبول جماعي بتداول سلمي للسلطة يقطع مع الانقلابات العسكرية التي جاءت بالنظام السوري. كيف يمكن أن تتوافق داخل هذه العقول الانتماء إلى ديمقراطية و تمجيد نظام غير ديمقراطي؟
لكن عدم الانشغال بالإجابة هو إجابة كافية فالوفود غير معنية بالديمقراطية إلا كوسيلة للسلطة ثم يتم الانقلاب عليها فالانقلاب هنا فلسفة سياسية جوهرية هي الأصل والباقي وسيلة مؤقتة ولذلك لا يشكل السؤال أعلاه معضلة ترهق التفكير.
غني عن التذكير هنا أننا نسمع منذ نصف قرن أن حركات الإسلام السياسي (الإخوان الفاشيين) هي حركات انقلابية تتذرع بالديمقراطية للاستلاء على السلطة وعدم التخلي عنها ولكن العكس هو الذي نعاين منذ انطلاق الثورة(الربيع العبري). لقد كان الرماة يرمون بدائهم وينسلون. ونتذكر أيضا أن الوضع غير الديمقراطي ما قبل الثورة ما كان ليسمح لهؤلاء بمخالفة الموقف الرسمي للنظام والقيام بنشاط سياسي مخالف لتوجهه في السياسات الخارجية. بما في ذلك التضامن الصوتي مع القضية الفلسطينية المجمع عليها. فالمظاهرات كانت تخضع لنظام الترخيص ويقودها الحزب الحاكم ويمنع مثل هؤلاء من الخروج عن الصف الرسمي الذي تتصدره رجالات الحزب الحاكم.
ماذا بعد الزيارات؟
كنا نأمل أن يعدل المختلفون في الداخل اختلافاتهم ويبقون على خيط التواصل السياسي الديمقراطي فهو أمر من أمور الديموقراطية فهناك مثلا اختلاف داخلي حول الموقف من النظام الجزائري ولكنه اختلاف لم يعق التعايش الديمقراطي كما أن هناك اختلاف من النظام المغربي والفرنسي ولكن الأمر يختلف مع النظام السوري فهو في حالة عداء مع فرقاء تونسيين وقد أعلن عليهم الحرب ولولا الجغرافيا المانعة لكان له معهم شأن لا يختلف عما يجري في شمال لبنان. إنه في حرب مؤجلة يتحين لها الوقت وشعوره بوجود حلفاء له في الداخل التونسي يقربونه على بني وطنهم يجعله يمد يده إلى أعداء أصدقائه. وهنا ننتظر أن تسفر الزيارات عن مستتبعاتها في الفترة القادمة.
لقد ذهبوا يستنصرون بعدو عدوهم الداخلي بما يجعله حليفا يرفد نشاطهم في الداخل وهو نشاط لن يكون في اتجاه الديمقراطية على هشاشتها بل في اتجاه نقضها لإخراج عدوهم منها وإذا كانت وسيلة الانقلاب المباشر قد عازتهم فلن تعوزهم وسائل غير ديمقراطية أقلها تخريب المسارات القادمة التي تشترط هدوء سياسيا لتنجز. فكل هدوء يمهد لتقدم الديمقراطية وكل اضطراب يمكن للانقلابيين. ونحن في انتظار فترات فوضى لعل حرائق الغابات بعضها. فهذه الأيام نسمع تهديدات حفتر لتونس ونعرف أن رجالات بن علي (صديق حزب الله) يمرحون في البلد بلا رادع وملف ترحيل الدواعش من تونس فيه بصمة النظام السوري التي يتهرب المحققون من دفع التحقيق إلى مداه لإثباتها وإبقاء أصابع الاتهام موجهة إلى حركة النهضة (الإخوان).
في أجواء ديمقراطية سيكون من المعيب أخلاقيا منع الأفراد والمنظمات من حرية التعبير السياسي ولو بمخالفة موقف النظام القائم. ولذلك ولأن الوفود خارجة من بيئة ديمقراطية ما كان لأحد حق منعهم من التضامن مع من يرونه صديقا ولكن لأن صديقهم غير ديمقراطي وانقلابي وتخابري بامتياز فإن مستوى الثقة فيهم يضمحل ويتلاشى ويصير الحذر من التعامل معهم داخليا ولو بشروط الديمقراطية مخيفا. فليس من السهل إخفاء المرء أفعى في جيبه. ولكن المعول على الزمن فهو كفيل بكشف حقائق كثيرة فهذه الأيام تتوالي التصريحات الرصينة عن براءة الإسلاميين من الاغتيالات السياسية واتهام جهات أخرى ظلت مخفية لسنوات(الآن فهمنا سبب صمت الرئيس عن الكشف فالجهة المورطة مخيفة فعلا).
ستعمق هذه القطائع جراح الديمقراطية الوليدة في تونس فالعداء على أشده ولا مجال لعلاجه وتأخر تقدمها في أرض وعرة بميراث الدكتاتورية والفقر ولكن لسلامة الديمقراطية ولو بسرعة السلاحف فإن النأي عن أعداء الديمقراطية من صميم الديمقراطية وضروراتها. أما عن قدرة النظام السوري على مساعدتهم فعلا وبأكثر من لعبة المخابرات والاغتيالات فمرهون بقدرة النظام على تحرير أرضه وسمائه من الجيوش والميليشيات التي تتحكم في مياه شرب عاصمته. دعنا من تحرير الجولان فهناك يحتفظ النظام برفاهية حق الرد في الوقت والزمان المناسبين.
لقد حج الحجيج إلى كعبة لا تنتصر.