الصخرة ثابتة على حافة البحر والبحر يرغي تحتها وهو يجلس على الصخرة الثابتة وقلبه يرغي بالحنين وبالنصوص. ينظر إلى الأعماق البعيدة وشمس الغروب تنعكس على صفحة الماء فتصبغه بلون كالفضة القديمة ويستعيد قلبه منذ وعى بلون الماء ورائحة التراب. يكتب بالعود على الرمل جنب الصخرة. والماء يمحو ولا يبالي.
" استعادة التاريخ الفردي محاولة مستميتة لعيش الحياة مرتين مع تصحيح أخطاء التجربة الأولى في سرد متين لكي يستقيم الحساب أمام الله. يشبه الأمر بعض أفلام الخيال العلمي حين يودُّ كاتب النّص أن يغيِّر معطيات في التاريخ الآني فيعود إلى نقطة محددة في الماضي. فيلغي أحداثا بعينها ليسقط ما انجرَّ عنها حتى لحظة وقوع كارثة".
بوده أن يعود إلى تغيير المقدمات. لأن النتائج لم ترق له عند صخرة النهاية. تغيير الراهن بتغيير مقدماته المقدرة. هواية الكُتَّاب. ولكنها لحظة الرجل على الصخرة أمام البحر كل مساء. والتصحيح نوع من إعادة تهيئة الصخرة لراحة المجلس الأخير. انه مشرف على نهاية ويستأنس بأثر الماء على الصخر.
المجلس الأخير على الصخرة الجامدة على حافة البحر تشهد أنه وصل فعلا إلى نهاية واقعية لكنها ليست النهاية المرتجاة.. كان يريد أن يصل أرضا مختلفة لكنه وجد نفسه على الصخرة في مواجهة البحر الذي يردَّ أشعة الشمس قبل الغروب فيكتسي لونا ميتا. الموج اللَّطيف يتكسّر تحت قدميه. وهو يمعن في تصيّد تفاصيل الرغوة البيضاء العابرة وينتهي إلى أنه ليس أكثر من رغوة على موجة. هو لا يعترض على القدر. أو يقول بصوت جهير أنه لا يعترض على القدر لكن النتائج أقل من طموحه. الأخطاء تظل تخز صاحبها في جنبه حتى يموت.
التاريخ البعيد جدا يحتاج إلى تعديل بسيط. كأن يولد لأسرة ميسورة فيجد وقتا ليتعلم الرياضيات فيصير طيَّارا ويزور العالم لكن ولد في نص الجفاف الأول حيث السحاب غنيمة والماء قصة والسيول عرس صاخب فاكتفى بالقليل من الحكاية وشرب من ماء الجدود قليله. القليل. كان بعض الأدب واللّغة البسيطة. بهما أمكن أن يعيش عيشة بسيطة فلا يشقى بالرياضيات وبالنفاق.
في المدرج الاجتماعي رأى كثيرين يمرون على أطراف ثوبه إلى أمجادهم لكنه تحمل ذلك ولم يبال. في الطريق كانت هناك وردة تكتب الشعر وتحب الأدباء لكن قطفها رجل غني من أهل الحساب الظافر. القصيدة السرية التي كتباها من وراء ظهره القوي غير قابلة للنشر. ولا يمكن تعديل التاريخ الأول لنشرها. الذكاء الرياضي المفرط لم ينبه صاحبه. بقيت الصخرة التي كان يجلسان عليها ويتحدثان عن قصيدة قابلة للصياغة على بحر مختلف. يمكن خداع التاريخ في الكراسات المدرسية. الزرع خلف أبواب الآخرين يبدو كتابة أخرى للوقائع لا تحتاج للتعديل. في الجهل بالظاهر متعة باطنية فاحشة. لكن ذلك ليس انتصارا ماجدا بل خِسَّة مرذولة. الانتصار في جسد أنثى هزيمة أخلاقية. الصخرة تحته لن تتكلم فهي شاهد لم محايد.
كم يودُّ تغيير وقائع الجفاف في الماضي ليحسن من وضعه في الممر النهائي. لماذا ولد هناك حيث يموت الصبار من العطش. لقد ولد عَطِشًا ويَقِنَ أنْ سيَمُوتُ ولا يرتَوِي. الماء بغيته وهو قليل حيث ما ذهب. الماء طريق إلى الماء ولكن كلما شرب عطش. كل شيء حدده الماء. وعندما انتقل إلى الماء لم يرتَوِ أبدا.
من فرط جفاف القلب حوَّل الماءَ صورة في وجدانه. فصار الماءَ صورة في النص وتعزية أخيرة. صورة العالم المبنية بالماء ليست صورته بالجفاف. في الجفاف يبيت الموت فوق سطح الخيمة منتظرا أن يأخذ روحا سَمْحَةً ويطير. في الجفاف الأرواح خفيفة كالقش لا تشكل ثقلا على ظهر الملاك إذ يطير. يطيب للموت أن يرافق الجفافَ حيث تخف الأحمال والأرواح وريش الطيور الوحيدة إذ تطير حتى تموت.
الزمن مر فوق ظهره وكتب وقائعه الكثيرة. لذلك ينظر إلى قدميه كلَّ يوم وهو يدبُّ إلى الصخرة ويستعيد ولد هناك ويريد تغيير الصورة الأولى لينتهي ماء قرب الماء.. يشعر أن الجفاف هو الذي كان يجلس فوق ظهره فيثنيه. لو ولد في الماء قرب الماء لكن ريانا كالصنوبر أو لكان مياسا كالخيزران. الجسم الذي نبت في الماء لا ينحني إلا لجمع الزهر في باقات فائحة.
يقول لشبه صورته المهتزة في رغوة الأمواج، "ولقد زعمت أني أحب الفلاحين لأني منهم وأفهم في التراب وفي الثَّرى وأعرف في النبات وفي الحشائش وتعلمت زرع القمح في أثر السيول العابرة وعرفت طعم الزهر إذ يضوع في أثر المياه. وأشمُّ دودَ الأرض بحثا عن غذاء. ولقد تعلمت تهجية السّحاب وقراءة أثر السيول لكنها كانت خرائط للجفاف. هناك قال أهل العلم إن الماء عابر فهجرت أرضا حوَّلَتِ الماء من فرط الجفاف إلى رواية. ووصلت برَّ الماء حيث ترفع صخرة فتنفجر عيون. هنا أريد أن أنهي الجفاف وأكتب خاتمة الطريق.
فوق الصخرة الصماء قرب البحر يمكنني التخلي عن جسد الجفاف. غير أن الماء جفَّ فيَّ فحوَّلني ترابا. ضع فقرة ثابتة هنا إذا ولدت في الجفاف وهاجرت إلى الماء جئت بالجفاف في قلبك ومتَّ به قرب الماء عطشان. لذلك يجب تغيير الواقعة الأولى لتصلح النهاية من تلقاء نفسها. لا يمكن اصطناع الماء بالهجرة إليه في الجغرافيا الماء معنى يصبغك من الداخل الماء معنى لا مكان.
الماء عند العرب ذكر،لكنه عن الناس أنثى. الماء أنثى تحمل وتلد. والماء خصوبة ومنها كل شيء حي. الماء أنثى خصبة ولها حليب. فوق الصخرة يمكنك حسن الظن بالعناصر كتعزية أخيرة عن جفاف القلب. إذا غيرت مكان الميلاد دب فيك الماء وصيّرك خصبا أو رطوبة. فلا تعد باللُّغة إلا إليك.
أبناء الجفاف ذَكَّرُوا الماء ليحتمِل الجفافَ. شيء ما في اللُّغة يخفي الماء بين الذكورة والأنوثة ليؤكد معنى الخصب الجليل. لكن هذا لغو لا يعنيه هو معني فقط بتغيير احتمال الولادة في الجفاف ليكون خصبا والماء يجري تحت قدميه.أيها الماء انهمر أو انبجس كما يوما تحت أقدام النبي المفرد. الماء يد الرَّب في الأرض العمار والصحراء حيث ولد غضب الله العظيم.
لم ينس رمل الريح في عينيه ولم ينس موت الزهر في كفيه ولم ينس كذب السحاب الأشهب فوق الجبال القاحلة. لم ينس دمع الشيخ وهو يبكي شجره ويعد فوق فحمه شايا ثقيلا ويقول كانت هذه زيتونة شرقية. فسافر لينسى ولم ينس وجلس على الصخرة الصماء قرب البحر ليودع أيامه ودموع شيخه. الماء يحتاج ترتيب البداية.
أيها الماء اصطنعني لغاية فأنت يد الله في الأرض اليباب وأنا يباب ولد حيث الماء وَهْمٌ راسخٌ وجئت سعيا نحو عين لا تجف لم أجدها فيَّ فاصطنعني عينا أو جداول أو سحابة كلما حَمَّلُتُ دِلاَئِي ارتويتُ مني وانبجَستُ. ثم سَقيتُنِي وشربتُنِي وانبتُّ مِنِّي نبتا صالحا مخضلا للصبوح وللغبوق. إن ماء الله في الدالية زلال فإذا حَلَّ فِيَّ حَلَّ وانتشَيِنَا. وزلالي لغتي الريانة بماء العيون في الشمال. يا شمال الماء خذني فجفافي قادني حيث العيون. فاصطنعني مني ماء لا يموت.
يظلم الليل قلبه فيظلم قلبه في الليل أو يشرق بالحلكة ويصير ماء البحر أسود. ربما كان شيخه الآن في الصحراء ينتظر السحاب. ربما كانت أمه التي تسكن بين الرئتين تصلي خاشعة إن اسقنا يا رب الجفاف الأقدس. ربما غطى سحاب عابر تلك السماء الصافية حيث كان يمكنه قطف النجوم. ربما قتل الشك فؤاده. لا ماء في الأرضين هذه البلاد يقتلها جفاف خارق. كلما كتبت فكرة في ورقة جاء تجار الكلام وميّعوها. عد إلى قلبك المسكين واكتب. لا جدوى من تعديل الماضي فقد بلغ النهاية لا جدوى من تعديل المستقبل لقد وصل إلى بلاد بلا نص. أجاج في زجاجة.