فيض من الحديث عن الإسلام السياسي في المنطقة العربية فمن بين التيارات السياسية العربية التي تسند إلى مشروع ايديولوجي وهي القومية العربية واليسارية والإسلامية لا نجد في المكتوب والمنشور عربيا إلا حديثا عن الإسلام السياسي باعتباره تيارا حقيقيا موجودا في الشارع ويساهم في خلق القضايا الفكرية بينما يشعر القارئ العربي خاصة الذي نهل من كتابات الستينات والسبعينات اليسارية والقومية أن هذين التيارين قد توقفا تقريبا عن الانتاج الفكري والبرامجي وتفرّغا ضمن آخرين للحديث عن الإسلام السياسي دحضا لأطروحاته أو تبريرا لقمعه واقصائه.
كُتّاب الإسلام السياسي بدورهم كثر وفيهم أسماء لامعة ومؤثرة في تطوير الاطروحة الاولى وفيها أقلام سجالية فقيرة إلى مراجع حديثة بينما يستغرق الفقه والعبادات مساحة كبيرة من وقت وجهد فئات أخرى لا تعتبر معنية بالفكر السياسي بمعناه العملي بل هي مغرقة دوما في الأحكام الشريعية تكررها بصيغ جديدة وتستفيد من التقنية المتطورة. لكن يمكن إجمال الحديث حول الإسلام السياسي في أطروحتين متضادتان واحدة تقول بانتصاره وأخرى تقول بنهايته .
أطروحة الانتصار
تعتمد هذه الأطروحة أولا على مواقف الترحيب بأحزاب الإسلام السياسي في الساحة الدولية حيث يصبح تقرير البرلمان الانجليزي الذي لا يصنف جماعة الإخوان المسلمين تنظيما إرهابيا دليلا على مقبولية هذه الجماعات والأحزاب وتصبح علاقة المستشارة الالمانية غير العدوانية مع حزب النهضة التونسي دليلا على ترحيب الألمان بالنهضة والتعاون معها لا رفضها باعتبارها حزب إسلامي سياسي.
كما تعتمد ثانيا على بعض النجاحات الاقتصادية في إدارة الدولة حيث تصبح نجاحات تركيا تحت حكم العدالة التنمية أو المغرب تحت إدارة بن كيران أو نجاحات وزير التموين المصري تحت حكم مرسي علامات وأدلة على اقتدار أحزاب الإسلام السياسي بخلفيتها الإسلامية بالذات على إدارة الدولة وتحقيق التنمية لأنها أحزاب إسلامية بالذات.
وتذهب خلال ذلك إلى استعادة وضع الضحية المقموع كحجة ثالثة للإقناع بأن هذه الأحزاب الإسلامية لم تحض أبدا بفرصة كاملة لفرض قدراتها فهي باستمرار محل إقصاء ومطاردة من الداخل والخارج لأنها أحزاب إسلامية وإسلاميتها هي سبب القمع والإقصاء. رغم أنها تفوز في كل استحقاق انتخابي سياسي أو جمعياتي تدخله فالشعوب ترحب بها والقوى الدولية والقوى المحلية العميلة تقصيها. فتجمع القمع المسلط عليها إلى القمع المسلط على الشعوب عامة لتتوحد في الخطاب مع شعوب مقموعة فعلا لا قولا وتستفيد من خطاب الضحية لتطور قدراتها على التنظيم والتماسك الداخلي. وشد أنصارها إلى عصبية التنظيم الحزبي الذي لا ينفصم حيث تتحول قدراتها التنظيمية بدورها إلى حجة على القوة والقدرة على البقاء في زوابع السياسة مصورة ذلك على أن العقيدة الدينية هي السبب.
أطروحة التحلل والفناء.
تعتمد هذه الأطروحة على قراءات متفلسفة عن نهاية الايديولوجيا عامة ونهاية الايديولوجيا الدينية كمسند للفعل السياسي خاصة في سياق تطور الفعل السياسي المدني منذ الثورة الفرنسية وإن الأمر لا يعدو كونه مسار تحديث تاريخي لا يمكن نقضه وما أحزاب الإسلام السياسي إلا فقرة متبقية من تاريخ قديم ما قبل حداثي مصيرها الزوال تحت ضربات الحداثة. فكما انتهت الكنيسة سينتهي الإسلام.. وإذا كان خطاب الهوية مفيدا في تحفيز الناس في معركة تحرر وطني ضد الاستعمار المباشر فإن وضع الشعوب تحت الاستعمار قد ولى وبالتالي لا يمكن استثارة الناس بخطاب ديني هوياتي ضد مستعمر لم يعد له وجود فالتبادل الاقتصادي لا يتم الآن بين مركز مهمين وأطراف مقهورة بل هو تبادل معولم ليس فيه مستضعف وهنا تصبح الأحزاب ذات الخطاب الهوياتي أحزابا بلا برنامج حقيقي (ينطبق الأمر أيضا على الأحزاب/الحركات القومية )ويصبح خطاب الهوية خطابا أيديولوجيا منتهي الصلاحية وينتج الإرهاب خاصة أن الجماعات المتطرفة المنتمية إلى الإسلام تحرص على زاوية النظر المقاومة للاستعمار المفتت للأمة بما يزيد خطاب الإسلام السياسي عامة رهقا إذ تلتقي ربما دون رغبة منها (وهي التي تنفى عن نفسها صفة الإرهاب وتعلن الانتماء المدني) في نفس الميدان مع أشد الحركات الإسلامية تطرفا.
يلتقي في هذا الموقف/الأطروحة كثيرون من جيل كيبال الفرنسي إلى علي حرب اللبناني إلى زعماء اليسار العربي المنتظمين بدورهم في أحزاب يسارية تعيش فقط من عدائها لأحزاب الإسلام السياسي إلى العسكر العربي الذي يستسهل القفز إلى الدبابة ومحق الخصوم كما في انقلاب السيسي على مرسي.
عودة إلى أسباب الوجود وأسباب البقاء
هذا السجال مستمر بعد وهو يمتلك حجيته فالخطابان يقدمان أدلة على وجود الإسلام السياسي في قلب الجدال حول المستقبل في الوطن العربي بخلاف أيديولوجيات اليسار والايديولوجيات القومية المستنفذة.
غني عن القول أن نشأة الخطاب الإسلامي هي نشأة هوياتية فقد استجاب هذا الخطاب إلى أطروحة تحررية منذ البداية (نشأة تيار الإخوان المسلمين بعد سقوط الخلافة مباشرة) وكان لكل خطاب إسلامي حتى من خارج التيار الإسلامي مقبولية شعبية فالاستعمار المباشر منه وغير المباشر نُظِر إليه كاعتداء على الأمة وعلى دينها. وكانت شعارات حركة التحرر الوطني لا تفرق بين تحرير الأرض وتحرير العقيدة فقتال العدو كان يتم باسم الله لا باسم الوطن. والوطن لم يكن خارج الوجودي الايماني للمقاتل المسلم غير الإسلامي .
في لحظة سياسية محددة استحوذ الخطاب القومي العربي على كل شعارات التحرر الوطني وجيّرها لحسابه بواسطة الدولة وخاصة بواسطة العسكر. وكانت تجربة الناصرية في مصر والبعث في العراق هي تجربة تحرر وبناء وطني لكنها وجدت الخطاب القومي غير قادر على بناء الكيان القومي فلم تتجاوز (الشعارات) إلى أطروحة في البناء القومي ووجدت نفسها في ورطة إدارة بلدانها (الدولة القطرية) على أساس قطري غير قومي. فلم يبق لها من الخطاب إلا الشعارات الكبيرة ثم أذن نجمها بالأفول وتحولت إلى ذكريات وحنين. والعبرة من ذلك أن مصير الاحزاب الإسلامية السياسية وفي أول الثورة وجدت نفسها في نفس موضع التيارات القومية (في موقع الحكم) فارتج عليها فالحكم بما هو إدارة الدولة لا يحتاج إلى قوم مؤمنين بالله ومتدينين والدولة الحديثة ليست مهتمة بأن تكون سليلة دولة الإسلام الأولى.(الدولة هنا جهاز إداري لا فكرة فلسفية) هي إدارة فقط لتدبير الشأن العام في سياق معولم لا يحتاج فيه المرء إلى إعلان عقيدته في السوق .
كانت أول خطوات الاجتهاد لدى هذه الأحزاب وقد ذاقت حلاوة السلطة أنها استظلت بسقف الدولة الحديثة المنظمة بقوانين وضعية بعضها في تناقض صارخ مع ما كان يروج عن دولة الإسلام المشتهاة (أو المتخيلة) خرجت من الإسلام السياسي أحزاب براغماتية (تونس والمغرب وتركيا)وصيغت لذلك حجج وذرائع التعايش والتوافق وخدمة الناس كما هم لا كما نريدهم أن يكونوا وصار التعامل مع الآخر /الأجنبي (الغربي خاصة) يدخل تحت باب التعاون والاستثمار فلم نعد نميّز في فترة قليلة بين خطاب سياسي غير اسلامي وخطاب المسؤول الإسلامي القادم حديثا إلى السلطة من أيديولوجيا بنيت على تطهير الدولة من رجس الوضعية.
هل كان لأحزاب الإسلام السياسي مشاريع حكم ؟
لقد تأخر طرح هذا السؤال وتأخرت الإجابة عنه طويلا. لم يحظ الإسلاميون بهدنة منذ حادثة المنشية (اغتيال عبد الناصر) وفي كل قطر تلقفتهم الأنظمة بالحديد والنار. فما من قطر عربي إلا وله إسلاميوه المعذبون وشهداؤهم. هذه المعاناة الطويلة حمت الإسلاميين من اختبار السلطة فلم يعرف فيما يفكرون ولا كيف يديرون الدول وما هي مخططاتهم للحكم. طبعا توجد شعارات كثيرة وإعلانات مبادئ فضفاضة (مثل كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام للغزالي) لكن الاختبار الحقيقي لم يبدأ إلا بعد الثورة وهنا اكتشف الإسلاميون قبل غيرهم أنهم لم يفكروا في سبل إدارة الدولة وليس لديهم في تكوينهم ما يسعفهم حيث لا يكفي تذكر سيرة عمر الفاروق لإدارة دولة حديثة.
لم يعد خطاب التحرر الوطني مجديا وجالبا للأنصار رغم أن الهشاشة القطرية تستدعي التأليف حول فكرة الأمة العربية الإسلامية (وهي صيغة جامعة من زمن الحلم باستعادة الخلافة) لكن إكراهات الحكم تجعل الإسلاميين كما جعلت قوميين قبلهم يفاوضون ولا يحاربون من أجل التحرير. تتراجع قضية فلطسين مثلا من الخطاب والممارسة النضالية فيستقبل مسؤول الحزب الإسلامي حجاجا صهاينة في تونس حفاظا على السوق السياحية الذي تموله وكالات دولية لها ارتباطات معروفة بالكيان الصهيوني.
يقوم الإسلاميون الآن وفي تونس بالخصوص بتفكيك مشروعهم القديم. وهم بصدد التحول إلى حزب ليبرالي بلا هوية إسلامية يتخذ لنفسه وسيلة من الدولة ليبقى خارج سجونها وربما يعرض نفسه على الناخب ليحكم ولكنه واقف الآن أمام حقيقة عسيرة الهضم. الإسلام السياسي ليس إلا مجموعة شعارات كبيرة ومثيرة لكنها ليست برنامج حكم في القرن 21.
الحقيقة أن كل اجتهاد في اتجاه الاندماج في الدولة يسقط جانبا من منظومة التفكير الإسلامي المؤسسة، فالنقاء العبادي (التطهر) استنكاف عن النظر في مشاكل غير المؤمنين. والانتماء إلى الأمة الإسلامية وتحريرها يكتشف الضغوط الدولية على الأقطار منفردة فيتخلى الإسلاميون عن القول بالأمة الإسلامية ويتحدثون من داخل الدولة القطر باعتبارها نهاية الأرب. هكذا انتهى القوميون قبلهم وانتهى اليسار جزءا من الدولة بعد سقوط أطروحة توحيد عمال العالم(الوطن العربي) في ثورة اشتراكية.
لماذا كان الإسلاميون يعارضون الدول إذن؟ ولماذا كل تلك المعاناة والآلام الطويلة لنصف قرن أو يزيد؟ على قيادات الأحزاب الإسلامية أن تجيب قواعدها وانصارها على هذا السؤال أما غيرهم فيجب أن يكونوا سعداء لانتهاء عذابات الإسلاميين (حيث ما انتهت) وأن يكونوا سعداء أيضا لانتهاء الأحزاب الإسلامية إلى ما انتهت إليه الآن أحزاب سياسية فقط لا تملك أية حقيقة ربانية تخول لها الحكم أو تمدها بأسبابه .حقبة جديدة تبدأ ليس فيها انظمة مستبدة تعيش من قمع الإسلاميين وأحزاب جديدة بلا مشاريع أيديولوجية هذه إحدى نتائج الربيع العربي لمن يستشرف المستقبل.